للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فكأنه منخلع عن ربقة العقل، ومن ظنّ أنّ عقل النبي صلّى الله عليه وسلم مثل عقل آحاد السواديّة وأجلاف البوادي فهو أخسّ في نفسه من آحاد السواديّة وأجلاف البوادي. وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم إلّا بالتفهيم بعد تعب طويل من المعلّم وإلى ذكيّ يفهم بأدنى رمز وإشارة، وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور دون التعليم، يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار؛ وذلك مثل الأنبياء صلوات الله عليهم إذ يتضح لهم في باطنهم أمور غامضة من غير تعلّم وسماع، ويعبّر عن ذلك بالإلهام، وعن مثله عبّر نبيّنا صلّى الله عليه وسلم حيث قال: إنّ روح القدس نفث في روعي: أحبب من أحببت فإنك مفارقه، وعش ما شئت فإنك ميّت، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به. وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع للصوت بحاسّة الأذن ومشاهدة للملك بحاسّة البصر، ولذلك أخبر عن هذا بالنّفث في الروع.

ودرجات الوحي كثيرة والخوض فيها لا يليق بعلم المعاملة، بل هو من علم المكاشفة، ولا تظنّنّ أنّ معرفة درجات الوحي تستدعي منصب الوحي، إذ لا يبعد أن يعرّف الطبيب للمريض درجات الصحة، ويعلّم [العالم] الفاسق ودرجات العدالة وإن كان خاليا عنها. فالعلم شيء ووجود المعلوم شيء آخر، فلا كلّ من عرف النبوة والولاية كان نبيّا، ولا كلّ من عرف التقوى والورع ودقائقه كان تقيا. وانقسام الناس إلى من ينتبه من نفسه ويفهم، وإلى من لا يفهم إلّا بتنبيه وتعليم، وإلى من لا ينفعه التعليم أيضا ولا ينبّهه، كانقسام الأرض إلى ما يجتمع فيه الماء ويقوى فيتفجّر بنفسه عيونا، وإلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج في القنوات، وإلى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس، وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها؛ فكذلك هذا لاختلاف النفوس في غريزة العقل. ويدلّ على تفاوت [١]


[١] ح: تقارب.

<<  <  ج: ص:  >  >>