للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العلم المعرّف لغائلة تلك الشهوة. ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرّة، وقد لا يقدر من يساويه في العقل إذا لم يكن طبيبا، وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرّة. وإذا [١] كان علم الطبيب أتمّ كان خوفه أشدّ، فيكون الخوف جندا [٢] للعقل وعدّة في قمع الشهوة وكسرها. ولذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من العامي لقوة علمه بضرر المعاصي. فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل، وإن كان من جهة العلم فقد سمّينا هذا الضرب من العلم عقلا فإنه يقوّي غريزة العقل فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه. وقد يكون لمجرد التفاوت في غريزة العقل فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشدّ.

وأما القسم الثالث وهو علم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر، فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وبسرعة الإدراك، ويكون سببه إما تفاوت في الغريزة، وإما تفاوت في الممارسة. أما الأول وهو الأصل- أعني الغريزة- فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه، ومبادي إشراقه عند سنّ التمييز، ثم لا يزال ينمي ويزداد نموّا خفيّ التدرج [٣] إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة، ومثاله نور الصبح، فإنّ أوائله تخفى خفاء يكاد يشقّ إدراكها، ثم يتدرّج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس.

وتفاوت نور البصيرة كتفاوت [٤] نور البصر، فالفرق مدرك بين الأعمش وبين الحادّ البصر، بل سنّة الله جارية في جميع خلقه بالتدريج في الايجاد حتى إنّ غريزة الشهوة لا تركن في الصبي عند البلوغ دفعة وبغتة، بل تظهر شيئا شيئا على التدريج، وكذا جميع القوى والصفات. فمن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة


[١] ح: ولكن إذا.
[٢] ح: جيدا.
[٣] ح: التدريج.
[٤] ح: وتقارب نور ... كتقارب.

<<  <  ج: ص:  >  >>