مضمّنة فيه بالفطرة. وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة، ثقيلة على من ستر وجه السماع والتقليد دون الكشف والعيان، ولذلك تراه يتخبّط في مثل هذه الايات ويتعسّف في تأويل التذكّر وإقرار النفوس أنواعا من التعسّفات، ويتخايل إليه في الأخبار والآيات ضروب من المناقضات، ومثاله مثال الأعمى الذي يدخل دارا فيعثر فيها بالأواني المصفوفة في الدار، فيقول: ما لهذه الأواني لا ترفع من الطريق وتردّ إلى مواضعها؟ فيقال له: إنها في مواضعها وإنما الخلل في بصرك.
فكذلك خلل البصيرة يجري مجراه وأعظم، إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضرّ من عمى الفرس. ولمشابهة بصيرة الباطن لبصيرة الظاهر قال الله تعالى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)
(النجم: ١١) قال (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)
(الأنعام: ٧٥) وسمى ضده عمى فقال (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)
(الإسراء: ٧٢) وهذه الأمور التي كشفت للأنبياء: بعضها كان بالبصر، وبعضها بالبصيرة، وسمّي الكلّ رؤية.
قال أبو حامد: والحقّ الصريح أنّ التفاوت يتطرّق إلى الأقسام الأربعة، سوى القسم الثاني، وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. فإنّ من عرف أنّ الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضا استحالة كون الشخص في مكانين، وكون الشيء الواحد قديما وحادثا، وكلّ من يدركه يدركه محققا من غير شك. فأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرّق إليها.
أما القسم الرابع وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات لا يخفى تفاوت الناس فيه، بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد. وهذا التفاوت تارة يكون لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل على ترك بعض الشهوات دون بعض ولكن غير مقصور عليه، فإنّ الشابّ قد يعجز عن ترك الزنا وإذا كبر وتمّ عقله قدر عليه؛ وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفا، وقد يكون سببه التفاوت في