والكرم. أيها الناس، ما أسلس قياد من كان الموت جريره، وأبعد سداد من كان هواه أميره، وأسرع فطام من كانت الدنيا ظئيره، وأمنع جناب من أصبحت التقوى ظهيره. فاتّقوا الله عباد الله حقّ تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنّه يراه، وتأهّبوا لو ثبات المنون، فإنّها كامنة في الحركات والسّكون، بينما المرء مسرورا بشبابه، مغرورا بإعجابه، مغمورا بسعة اكتسابه، مستورا عنه ما خلق له بما يغرى به، إذ سعّرت فيه الأسقام شهابها، وأعلقت به ظفرها ونابها، فسرت فيه أوجاعه، وتنكّرت عليه طباعه، وأظلّ رحيله ووداعه، وقلّ عنه منعه ودفاعه، فأصبح ذا بصر حائر «١» ، وقلب طائر، ونفس غابر «٢» ، في قطب هلاك دائر، قد أيقن بمفارقة أهله ووطنه، وأذعن بانتزاع روحه من بدنه، فأومأ إلى حاضر عوّاده، موصيا لهم بأصغر «٣» أولاده، والنفس بالسياق تجذب، والموت بالفواق «٤» يقرب، والعيون لهول مصرعه تسكب، والحامّة تعدّد عليه وتندب، حتى تجلّى له ملك الموت- صلّى الله عليه- من حجبه، فقضى فيه قضاء أمر به، فعافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، وزوّد من ماله كفنا، وحصل في الأرض «٥» بعمله مرتهنا، وحيدا على كثرة الجيران، بعيدا على قرب المكان، مقيما بين قوم كانوا فزالوا، وجرت عليهم الحادثات فحالوا، لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقال لقالوا، قد شربوا من الموت كأسا مرّة، ولم يفقدوا من أعمالهم ذرّة، وآلى عليهم الدهر أليّة برّة، ألّا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرّة، كأنهم لم يكونوا للعيون قرّة، ولم يعدّوا في الأحياء مرّة، أسكتهم والله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجدّهم كما أخلقهم «٦» ، ويجمعهم بعد ما