قال منارة: فخرجت فركبت الإبل وسرت على ما أمر لي إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة. فكرهت طروقها، فنمت بظاهر البلد إلى أن فتح من غد، فدخلت على هيئتي حتى أتيت باب دار الرجل، وعليه صفف عظيمة وحاشية كثيرة، فلم أستأذن ودخلت بغير إذن. فلما أن رأى ذلك القوم سألوا بعض من معي عني، فقالوا: هذا منارة رسول أمير المؤمنين الرشيد إلى صاحبكم، فسكتوا. فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلسا رأيت فيه قوما جلوسا، فظننت الرجل فيهم. فقاموا ورحبوا بي وأكرموني، فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: لا، نحن أولاده وهو في الحمام. قلت:
فاستعجلوه. فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والحال والحاشية، فوجدتها قد ماجت بأهلها موجا شديدا. فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن أطال، فاشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى، إلى أن رأيت شيخا قد أقبل من الحمام يتمشى في الصحن وحوله جماعة كهول وأحداث حسان هم أولاده وغلمان كثير، فعلمت أنه الرجل. فجاء حتى جلس وسلّم عليّ سلاما خفيفا وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب. وما قضى كلامه حتى جاءوه بأطباق فاكهة، فقال لي: تقدم يا منارة، فقلت: ما بي إلى ذلك حاجة. فلم يعاودني وأكل هو والحاضرون عنده، ثم غسل يده، ودعا بالطعام فجاءوه بمائدة حسنة عظيمة لم أر مثلها إلا في دار الخليفة، فقال: تقدّم يا منارة، ساعدنا على الأكل. وهو لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة. فامتنعت فما عاودني. وأكل هو وأولاده- وكانوا تسعة، عددتهم- وجماعة كثيرة من أصحابه وحاشيته وجماعة من أولاد أولاده، وتأملت أكله في نفسه، فوجدته أكل الملوك، ووجدت جأشه رابطا، وذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن. ووجدته لا يرفع من بين يديه شيء قد جعل على المائدة إلا نهب. وقد كان غلمانه لما نزلت الدار أخذوا جمالي وغلماني فغدوا بهم إلى دار له فما أطاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة منهم