مالك وحيدا فريدا مقيدا، لا تدري إلى ما تصير إليه ولا كيف تكون، وأنت فارغ البال من هذا تصف بساتينك وقراك وضياعك، هذا بعد أن رأيتني قد جئت وأنت تعلم فيم جئت، بل أنت ساكن الجأش مطمئن القلب، ولقد كنت عندي شيخا فاضلا. فقال لي مجيبا: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخطأت فراستي فيك، قدّرتك رجلا كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحلّ إلا بعد ما عرفوك بذلك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقولهم، والله المستعان! أما قولك في أمير المؤمنين وازعاجه لي وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقة بالله عزّ وجلّ الذي بيده ناصية كلّ شيء، ولا يملك شيء لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا لغيره إلا بإذن الله ومشيئته، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد فإذا عرف أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي، وأنّ الحسدة والأعداء رموني عنده بما لست في طريقته، وتقوّلوا عليّ الأكاذيب الباطلة، لم يستحلّ دمي وتحرّج من أذيّتي وازعاجي، فردّني مكرّما أو أقامني ببابه معظما. وإن كان قد سبق في علم الله تعالى أن تبدر إليّ منه بادرة من سوء وقد حضر أجلي، وحان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل الأرض والسماء على فوت ذلك وتزحزحه عني ما استطاعوه؛ فلم أتعجّل الهمّ والغمّ وأتسلّف الفكر فيما قد فرغ منه؛ وإني أحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ الذي خلق ورزق، وأمات وفطر، وجبل وأحسن وأجمل؛ وقد كنت أظنّ أنّ مثلك يحسن ويعرف هذا؛ والآن قد عرفتك حق معرفتك، وعلمت حد فهمك، فإني لا أكلمك بعد هذا حتى تفرّق حضرة أمير المؤمنين بيني وبينك. ثم أعرض عني فما سمعت له لفظة بغير التسبيح والقرآن إلا طلب الماء أو حاجة تجري مجراه، حتى شارف الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر. وإذا النّجب قد استقبلتني على فراسخ من الكوفة يتحسّسون خبري؛ فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين. ودخلت إلى الرشيد فقبّلت الأرض بين يديه ووقفت. قال: هات ما عندك، وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة.