البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعمّاله، وأن يستخلفوا جميعا. فلما قدمنا أتيت يرفأ فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل، أيّ الهيئات أحبّ إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عمّاله؟ فأومأ إلى الخشونة، فاتّخذت خفّين مطارقين، ولبست جبّة صوف، ولثت عمامتي على رأسي، فدخلنا على عمر، فصفنّا بين يديه، فصعّد فينا وصوّب، فلم تأخذ عينه أحدا غيري؛ فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثيّ. قال: وما تتولّى؟ قلت: البحرين. قال: كم ترزق؟ قلت: ألفا، قال: كثير! فما تصنع به؟ قلت: أتقوّت منه شيئا وأعود به على أقارب لي، فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين. قال: فلا بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصفّ، فصعّد فينا بصره وصوّب، فلم تقع عينه إلا عليّ، فدعاني وقال: كم سنّك؟ قلت: خمس وأربعون قال: الآن حين استحكمت. ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، فأتي بخبز يابس وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، فجعلت أنظر إليه يلحظني من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنّيت أنّي سخت في الأرض معها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس محتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا، فزجرني وقال: كيف قلت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أن ينظر إلى قوتك من الطحين فيخبز لك قبل إرادتك إيّاه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز لينا وباللحم غريضا. فسكّن من غربه، فقال: أها هنا عزب؟ فقلت:
نعم، فقال: يا ربيع، إنّا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله عزّ وجلّ نعى على قوم شهواتهم فقال: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها
(الأحقاف: ٢٠) ، ثم أمر أبا موسى بإقراري وأن يستبدل بأصحابي. غريب هذا الخبر.
السبائك: الرّقاق، يريد ما يسبك من الدقيق. والصلائق: ما عمل بالنار طبخا وشيّا. والصّناب: صباغ يتّخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل