للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«٥٥٨» - كتب إبراهيم بن هلال الصابي إلى أبي الفتح ابن العميد يعزّيه بأبيه:

قد سبق في العلم، وثبت في العقل- أطال الله بقاء سيدنا الاستاذ الجليل- أنّ الله عزّ وجلّ جلّت كبرياؤه [١] ، وتقدست أسماؤه، القديم بلا ابتداء، الباقي بلا انتهاء، لا يشركه [٢] في ذلك غيره، ولا يختصّ به سواه، وأنه تعالى أبدع المخلوقات على اختلاف ذواتها، وتباين موجوداتها، وأعطى كلّا منها ما أوجبت الحكمة أن يعطاه، فلا سبيل إلى مزيد لها على حدودها التي وقفت عندها، ولا نقصان من غاياتها التي انتهت إليها. ولهذه المخلوقات منازل في الأعمار لا تتعداها، ومواقيت في الآجال لا تتخطاها، فلو أمكن فيها البقاء لارتفع الحدث ولساوى المفعول فاعله، والمجبول جابله، وسقط التفاضل بين الأدنى والأشرف، والأقوى والأضعف.

فوجود شخص الإنسان كأن لم يزل مود إلى عدم [٣] وكأن لم يكن. ولله عزّ وجلّ في ذلك منّة على البريّة لا يعرفها منهم إلّا الفذّ الفريد، والشاذّ الوحيد، لأضعاف عدد عوامّهم على خواصّهم، وجهّالهم على علمائهم. وكلّهم مركب من نفس تسمو إلى الأرفع الأسنى، ومن جسد يسفّ إلى الأدون الأدنى؛ فمن غلب أخسّ ما فيه أشرفه، قنط من الموت قنوط الغبيّ وكرهه كراهة الغرّ، وظنّ أنّ الله عزّ وجلّ قد قطع به عصمته، وأزال معه نعمته. ومن غلب أشرف ما فيه أخسّه أيقن أنّ الله لا يعبث في خلقه، ولا يفكه [٤] في نطقه، ولا يخلف ما وعد، ولا ينكل عمّا ضمن، وأنه عزّ وجلّ قد جبر مصاب الميت جبرين ظاهرين يشهد بأحدهما العيان عاجلا، وبالآخر العقل آجلا، فالعاجل النسل، والآجل النشر. فإن أخطأه الأول على عادة


[١] م: جبرياؤه.
[٢] م: يشاركه.
[٣] جمهرة: عدمه.
[٤] م: يكفه؛ ب: يكفر؛ جمهرة: يلغو.

<<  <  ج: ص:  >  >>