للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمن ذلك أنه يستقر في الرحم استقرار الموافقة، ويستوطن استيطان الملاءمة، فلو كان [له] هناك عقل مع الحسّ لكره النقلة عن موضعه، لظنّه أنه أوطأ مواضعه، ولجهله بالأمر الذي فوقه. وهذه صورته في دنياه تريه البشرية أنها خير مواطنه فيفارقها ضنينا بها متأسّفا عليها، وهو إذا حصل في التي بعدها حمد الله على ما صار إليه، ولم يحبّ العود إلى ما كان فيه، لما أزاح الله علّته في العقل الآمر بالخير، الناهي عن الشر، ولم يعوّل به في كلّ أمره عليه، ولم يكله في جميعه إليه، بل بعث إليه أنبياء بآيات واضحة، وبيّنات لائحة، فأقاموا له الدليل، ووقفوه على سواء السبيل، وأرشدوه إلى الشرائع المنجية، وحذّروه من الموارد المردية. كلّ ذلك عناية من خالقه به، ورأفة منه عليه، وإرادة للأصلح فيه. ولا يصلح أن يكون الموت مبيدا له إبادة لا رجعة فيها، ولا إنابة منها، لأنّ الحكيم يصير حينئذ مبتور الحكمة، منبتّ العصمة، وتعود البريّة إلى العدم عند انقراضها، كما كانت قبل ابتدائها، فينتقض الغرض في خلقها، وتفسد العلة في إيجادها. وهو سبحانه أعظم من ذلك شأنا، وأتمّ سلطانا، وأكمل صنعا، وأتقن عملا. فالمصير إذن من هذه الدار إنما هو إلى الأخرى التي هي أرغد وأفسح، وأفضل وأصلح، وحقيق على الإنسان أن يشتاقها وينازع إليها ويستحبّها ويثابر عليها، إلّا من خالف المأمور به، وقارف المنهيّ عنه، وحطب على نفسه، وحمل على ظهره، وأسخط خالقه، واستحق عذابه، فلا بدّ أن يتقاعس عن سوء المآل، وأن يتعجّل إلى النّكال، ومن وراء ذلك رب يحمله على العدل، ويقضي [فيه] بالفصل، من القصاص الذي يظهره [١] ، وبقدر ما احتقب من الآثام التي تدنّسه، فتكون عقوبته بكسب يديه، وعاقبته بالتفضّل [٢] عليه. وقد نزّه الله عن هذا المورد من أحسن العمل، وسلك الجدد، وقدّم في أولاه لآخرته، وتزوّد من عاجلته لآجلته، وأخذ من ممرّه لمقرّه، واحتشد [٣] لمقدمه في سفره، وتلك


[١] م: يظاهره.
[٢] ب: بالفضل.
[٣] جمهرة: واستحشد.

<<  <  ج: ص:  >  >>