للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٧٢٥- وكتب أبو اسحاق الصابي إلى بعض إخوانه: وقد سألتني عن الفرق بين المترسل والشاعر، وكنت سألتني- أدام الله عزّك- عن السبب في أنّ أكثر المترسلين البلغاء لا يفلقون في الشعر، وأنّ أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون في الترسّل. فأجبتك بقول مجمل، ووعدتك بشرح له مفصّل، وأنا فاعل ذلك بمشيئة الله فأقول: إنّ طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه، لأنّ أفخر الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك غرضه في أول وهلة سماعه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعط غرضه إلا بعد مماطلة منه لك، وعرض منك عليه. فلما صارت الإصابتان في الأمرين متراميتين على طريقين متباينين بعد على الفراغ أن تجمعهما، فشرّقت إلى هذا فرقة، وغرّبت إلى ذاك أخرى، ومال كلّ من الجميع إلى الجانب الموافق لطبعه. ثم ترتّبوا في المسافة بينهما، فكان الأفضل من أهل كل مذهب من وقع في الغاية أو قريبا منها، وجعل الوسط خاليا أو كالخالي لقلة عدد الواقعين فيه. فليس يكاد يوجد جامع بين الإحسانين إلا على شرط يزيد به الأمر تعذرا والعدد تنزرا، وهو أن يكون طبعه طائعا له، ممتدا معه، فإذا دعاه إلى التطرّف به إلى أحد الجانبين أطاعه وانقاد إليه، كابراهيم بن العباس الصولي وأبي علي البصير ومن جرى مجراهما؛ فهذا جواب مسألتك. وتبقى فيها زيادات وانفصالات لا بأس بإيرادها ليكون القول قد استغرق مداها، وتمت أولاه بأخراه؛ ذلك أنّ للسائل أن يقول: فمن أية جهة صار الأحسن في معاني الترسّل الوضوح وفي معاني الشعر الغموض؟

فالجواب أنّ الشعر بني على حدود مقرّرة وأوزان مقدّرة، وفصّل أبياتا كلّ واحد منها قائم بذاته وغير محتاج إلى غيره إلا ما يتفق أن يكون مضمنا بأخيه، وهو عيب فيه. فلما كان النفس لا يمكنه أن يمتدّ في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل، احتاج إلى أن يكون الفضل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق، ليصير المفضي إليه والمطلّ عليه بمنزلة الفائز بذخيرة خافية استفادها، والظافر بخبيئة دفينة استخرجها واستنبطها. ثم إنّ للمتأمّل

<<  <  ج: ص:  >  >>