وقفات على أعجاز الأبيات، وقد وضعت لإدراك المعنى والفطنة للمغزى، وفي مثل ذلك تحسن خفايا الأثر وبعد المرمى. والترسّل مبنيّ على مخالفة هذه الطريقة ومعاكستها، إذ كان كلاما واحدا لا يتجزّأ ولا ينفصل إلا فصولا طوالا. وهو موضوع وضع ما يهذّ هذّا أو يقرأ متصلا، ويمر على أسماع شتى الأحوال: من خاصّة ورعية، وذوي أفهام ذكية وغبيّة. فإذا كان متسهّلا ومتسلسلا ساغ فيها وقرب إذنه في أفهامها، وتساوقت الألسن في تلاوته، والألباب في درايته.
فجميع ما يستحبّ في الأول يستكره في الثاني، وجميع ما يستحبّ في الثاني يستكره في الأول، حتى إن ما قدّمناه من عيب في التضمين في الشعر هو فضيلة في فصول الرسائل. ألا ترى أن حسنها ما كان متعلّقا بعضه ببعض، ومقتضيا تعطّفا من الهوادي على التوالي، وردّا من الأواخر على المبادي. فمتى خرج الشعر على سنن الابتداع والاختراع فكان ساذجا مغسولا، فقائله معيب غير مصيب، والترك له أدلّ على العقل وأولى بذوي الفضل. ومتى خرج الترسّل عن أن يكون جليّا سلسا تعثرت الأسماع في حزونته، وتحيّرت الأفهام في مسالكه، فأظلم مشرقه، وتكدّر رونقه، وكان صاحبه مستكره الطريقة، مستهجن الصناعة.
وقد بقيت في الباب زيادة أخرى: وهي الإخبار عن سبب قلة المترسلين وكثرة الشعراء، وعن العلّة في نباهة أولئك وخمول هؤلاء. فالجواب عن ذلك أنّ الشاعر إنما يصوغ قصيدته بيتا [بيتا] ، فهو يجمع قريحته وقدرته على كلّ بيت منها، فيقرّره ويبلغ إرادته منه، وله من الوزن والقافية قائد وسائق يقومان له بأكثر حدود الشعر، فكأنه إنما يحذوه على مثال، أو يفرغه في قالب مماثل.
والمترسّل يصوغ رسالته متّحدة متجمّعة، ويضمّها من أقطار متراخية متسعة، وربما أسهب حتى تستغرق الواحدة من رسائله أقدار القصائد الطوال الكثيرة.
هذا إلى ما يتعاطاه من فخامة الألفاظ اللائقة بأن يصدر مثلها عن السلطان وإليه، والتصرّف فيها على ضروب ما تتصرّف عليه أحوال الزّمان وعوارض الحدثان.
فلذلك صار وجود المضطلعين بجودة النثر أعزّ، وعددهم أنزر. فأما ارتفاع