ومنطيق جوّال، فأخذوا في فنون المعارضات، وصنوف المناقضات، وسلكوا في معاني القريض، كلّ طويل وعريض، حتى إذا أخذ السائل منهم بالمخنق، ببيت الفرزدق:[من الطويل]
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلّف
ثم لم يحتبس فيها إلّا قليلا، فكثر فيه الجدال، وطال المقال، وما منهم أحد أجاد القياس، وأصاب القرطاس، ووقع على الطريق، وأتى بالتحقيق. فلما رأيتهم وهم في غمرتهم ساهون، وفي ضلالتهم يعمهون، ناديتهم إليّ فأرعوا، ومنّي فاستمعوا، فإني ابن بجدته، وعالم ما تحت جلدته، ثم إني أبديت لهم أسراره، وأثقبت ناره، وحللت عقده، ومخضت زبده، واطرت لبده، وبجست حجره، وأبثثتهم عجره وبجره. فقالوا: لله أبوك، فإنّك أسبقنا إلى غاية، وأكشفنا لغياية، وأجلانا لشبهة، وأضوانا في بدهة، وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم بعلم ما فيه، ويطّلع على خافيه. فأذكرني الامتعاض، وأخذني الانتفاض، فأنشدته:[من البسيط]
من ظن أنّ عقول الناس ناقصة ... وعقله زائد أزرى به الطمع
ثم قلت له: ادعيت فوق ما وعيت، فأخبرني عن أوّل هذا البيت: يا مجري الكميت، وكيف تنشده وعضّ بالفتح أو وعضّ بالضم؟ فقال: كلاهما مرويّ، فقلت: تبتدىء بالفعل ثم تعود إلى الاسم يا ذا الاعجاب، تهيأ للسائل في الجواب، مبنيّ عليه، لا يضاف سواه إليه. فقلت: هذا الجواب نعلمه، ومن صبيان المكتب لا نعدمه، وإنما ألتمس منك الفائدة فيها، وأطلب كشف خافيها.
فقال: ما جاء عن أئمة النحاة، وسائر الرواة، في هذا غير ما شرحته، ولا زادوا على ما أوضحته. فقلت: دع عنك هذا، وأخبرني عن هذا البناء: ألعلّة أم لغيرها؟ فأقبل يتردّد ويتزحزح، ويتثاءب تارة ويتنحنح، فلما سدّ عليه من طريقه، وحصل في مضيقه، وغصّ بريقه، قال: لا أعلم. فقالت الجماعة: