وإنّ العطية بعد المنع أحسن من المنع بعد الإعطاء، وكلّ الناس محتاجون إلى التثبّت، وأحوجهم إليه ملوكهم الذين ليس لقولهم وفعلهم دافع وليس عليهم مستحثّ.
[٨٠٦]- وقد جمع أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي من كلام الحكماء فقرا فمنها: الملك القادر أولى بالتأني في حكوماته، والتثبت في عزماته، لأنه إن أخذها على شبهة وأمضاها على غير بيّنة لم يكن له دافع عنها، ولم يخل أيضا من مساعد عليها. الملك المنعّم إذا أفاض المكارم، واغتفر الجرائم، ارتبط بذلك خلوص نية من قرب منه وهم الأقلّ، وانفساح الأمل ممن بعد عنه وهم الأكثر، فيستخلص حينئذ ضمائر الكلّ من حيث لم يصل معروفه إلا إلى البعض. الملك تلزمه الحقوق بأيسر سعي الساعي لها، وأقصر أمد الجارين إليها، لأنه ان انتظر بهم أن يعقدوا عليه المنن الجمّة، وان يسبغوا عليه النعمة الضخمة، لم يكن لهم بذلك طاقة، ولم يكن به إليهم فاقة، لكن المحلّ الذي حلّه، والمكان الذي تبوّأه يوجبان عليه أن يكون على القليل من الذمام محافظا، وبعين الرعاية لهم ملاحظا. الملك إذا وعد وفى، وإذا أوعد عفا. الملك إذا استكفى أحد ثقاته أمرا تشكل عواقبه، وتشتبه أعجازه، فانتشر ذلك الأمر عليه من حيث لم يأل جهدا في طلب نظامه والسعي لالتئامه، فواجب أن يحمده أو أن يذمّه، فإنه إن ذمّه قبضه وقبض نظراءه عن الدأب في المصالح والطلب للمناجح، ولحقهم من قصور الهمم ما يعود وهنه عليه وتتعلّق شكايته به، لأنهم يشغلون عن التوصل إلى ما يرومه، بالتحرز عما يضرهم. الملك يتوصل إليه كلّ من تنكّر له وتعتّب عليه، وهم طبقات ثلاث: فمنهم من ذنبه مقرون بعذره قد أماطه عنه وأخرجه سليما منه، ويقال أقرّ بالذنب طاعة، وأمسك عن العذر هيبة، ولا يحسن أن يقتصر بمن هذه
[٨٠٦] بعضه في زهر الآداب: ٥٨٨ ولقاح الخواطر: ٨٨/أ.