حدّاد يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلّب، فوجّه المهلّب رجلا من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطريّ والخوارج، فقال: ألق هذا الكتاب في العسكر واحذر على نفسك. وكان الحدّاد يقال له: أبزى. فمضى الرجل، وكان في الكتاب: أما بعد، فإنّ نصالك قد وصلت إليّ، وقد وجّهت إليك بألف درهم فاقبضها، وزدنا من هذه النّصال. فوقع الكتاب إلى قطريّ فدعا بأبزى، فقال له: ما هذا الكتاب؟ قال: لا أدري، قال: فهذه الدراهم؟
قال: لا أعلم علمها، فأمر به فقتل. فجاء عبد ربّه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له: أقتلت رجلا على غير ثقة ولا تبيّن؟ قال: فما حال هذه الدراهم؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذبا ويجوز أن يكون حقّا. فقال له قطريّ: فقتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللإمام أن يحكم بما رآه صلاحا، وليس للرعيّة أن تعترض عليه. فتنكّر عبد ربّه في جماعة معه ولم يفارقوه. فبلغ ذلك المهلّب فدسّ إليه رجلا نصرانيّا، فقال له: إذا رأيت قطريّا فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنّما سجدت لك، ففعل النصرانيّ فقال له قطريّ:
إنّما السجود لله، فقال: ما سجدت إلا لك. فقال له رجل من الخوارج: قد عبدك من دون الله، وتلا: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ
(الأنبياء: ٩٨) . فقال له قطريّ: إنّ هؤلاء النصارى قد عبدوا المسيح ابن مريم فما ضرّ المسيح ذلك شيئا. فقام رجل من الخوارج إلى النصرانيّ فقتله، فأنكر ذلك عليه وقال: أقتلت ذميّا؟! فاختلفت الكلمة، فبلغ ذلك المهلّب فوجّه إليهم رجلا يسألهم عن شيء تقدّم به إليه. فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكما، فمات أحدهما في الطريق، وبلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما؟ فقال بعضهم: أما الميّت فمؤمن من أهل الجنّة، وأما الذي لم يجز فكافر حتى يجيزها. فقال له قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيز المحنة. فكثر الاختلاف بينهم، وكان سبب تفرّقهم وتمكّن المسلمين منهم وانقطاع دابرهم.