ويفطن أبو زكّار لذلك فيجنّ ويموت غيظا، ويشتم أبا صدقة كل شتم حتى ضجر وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به، وأنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشرب وسئمنا من عبثه به، فقلت له: دع هذا عنك، وغنّ غناءك، فغنّى رملا ذكر أنّه من صنعته، فطربت له والله يا أمير المؤمنين طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين وزمان، وهو:[من الخفيف]
فتنتني بفاحم اللون جعد ... وبثغر كأنّه نظم درّ
وبوجه كأنه طلعة البد ... ر وعين في طرفها نفث سحر
فقلت له: أحسنت والله يا أبا صدقة! [فلم أسكت] من هذه الكلمة حتى قال لي: يا سيّدي، إني قد بنيت دارا أنفقت عليها خزينتي، وما أعددت لها فرشا، فافرشها لي نجّد الله لك في الجنة ألف قصر. فتغافلت عنه، وعاود الغناء، فتعمّدت أن قلت: أحسنت ليعاود مسألتي، وأتغافل عنه؛ فسألني وتغافلت، فقال: يا سيّدي، هذا التغافل متى حدث لك؟ سألتك بالله وبحقّ أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم. فأقبلت عليه وقلت: أنت والله بغيض، اسكت يا بغيض واكفف عن هذه المسألة الملحفة. فوثب من بين يديّ، فقلت خرج لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه وتجرّد منها خوفا من أن تبتلّ، ووقف تحت السماء ولا يواريه منها شيء والمطر يأخذه، ورفع رأسه وقال: يا ربّ، أنت تعلم أني مله ولست نائحا، وعبدك الذي قد رفعته وأحوجتني إلى خدمته يقول لي: أحسنت، ولا يقول لي: أسأت، وأنا منذ جلست أقول له بنيت ولا أقول هدمت، فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض، فاحكم بيني وبينه يا سيّدي، فأنت خير الحاكمين. فأمرت به فنحّي بعد أن غلبني الضحك، واجتهدت أن يغنّي فامتنع، حتى حلفت له بحياتك أني أفرش له داره وخدعته فلم أسمّ له ما أفرشها فقال له الرشيد: طيّب والله! الآن ثمّ لنا به [اللهو] وهو ذا، ادعوه، فإذا رآك فسوف يتنجّزك الفرش لأنّك حلفت له بحياتي، فهو يقتضيك ذاك