للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبين مصروف بالرويّة، وبين مدبّر باللسان، وعناية النفس السائسة قد دبرت هذه الأشياء كلها، فما ينساق منها بقوتها على المراد والايثار أكثر مما ينساق منها بالاجتهاد والإجبار، وإني لأهمّ بالشيء فأكون كأني قد باشرته، وأومىء إليه فأكون كأني قد تقدمت فيه، وآمر به فكأني قد كفيته، وألبسه فأكون كأني قد فرغت منه، وربما وجدت في أموري ما يسبق أمنيتي ويزيد على اقتراحي، ولقد بلغت ما ترون فما أعيتني إيالة ولا أعوزتني آلة، وما نفعني كلام ككلام كتبه إليّ أرسطو معلمي، فإنه قال في رسالة: أيها الملك لا تنخدع للهوى وإن خيّل إليك أنّ في انخداعك له خداعه، فقد يسترسل الانسان في بعض الأشياء، وهو يظنّ أنه متحفّظ ليظفر بمطلوبه، فيعود إليه ذلك الاسترسال بأعظم الوبال، ويضمحلّ ذلك التحفظ كأنه لم يخطر ببال. واجمع في سياستك بين بدار لا حدّة فيه وريث لا غفلة معه، وامزج كلّ شيء بشكله حتى تزداد قوة وعزّة من ضده حتى تتميز لك صورته، وصن وعدك من الخلف فإنه شين، وشب وعيدك بالعفو فإنه زين، وكن عبدا للحقّ فعبد الحقّ حرّ، وليكن وكدك الاحسان إلى جميع الخلق، ومن الاحسان وضع الإساءة في موضعها، فإن للاحسان أهلا وإن لضده أهلا، وكن نصيح نفسك فليس لك أرأف بك منك، وإذا أشكل عليك أمر، واعتاص على حولك وجه، فاضرع إلى الله الذي قادك إلى هذه الغاية، فإنه يفتح عليك المرتج، ويتمّ لك المخدج، ويجعل لك في كلّ أمر أسهل المدخل والمخرج. وإذا أفاتك الله شيئا فاستيقن أنّ ذلك لسهو عرض لك في الشكر على ما أفادك، والشكر على النعمة هو أن تعترف بالنعم لله أولا، ثم تشرك عباده فيها ثانيا، ومهما أخطأك شيء فلا يخطئنّك الفكر في الرحيل عن هذا الحرى «١» ، فإنك إذا فكّرت فيه سلوت عن الفائت، وقلّ اعتدادك بالحاصل، وكما يعجبك من غيرك أن يصدقك فليعجبك أن تصدق نفسك حتى يقبل منها صدقها لك. وإذا تظاهر

<<  <  ج: ص:  >  >>