ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسألاه عن ذلك، فقال: هو هذا، وفي ذلك- يعني مسجد قباء- خير كثير، وأخرجه أحمد من وجه آخر مرفوعا، وفي العتبية عن مالك ما لفظه: وقال: المسجد الذي ذكر الله عز وجل أنه أسس على التقوى من أول يوم الآية هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا، أي مسجد المدينة، ثم قال: أين كان يقوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك من هنالك.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً [الجمعة: ١١] فإنما هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقد قال عمر بن الخطاب: لولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو سمعته يريد أن يقدم القبلة، وقال عمر بيده هكذا، ما قدمتها، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن، انتهى.
قال ابن رشد في بيانه: ما ذهب إليه مالك مروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء، فاستدلوا بما روي أن الآية لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم خيرا، الحديث، قال: ولا دليل فيه؛ لأن أولئك كانوا في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم، قال: واستدلال مالك بقول عمر المتقدم ظاهر؛ لأن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض بنائه وتبديل قبلته، إلا بما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله.
قلت: ما ذكره مالك من كون مسجد المدينة هو المراد هو ظاهر ما قدمناه، لكن قوله تعالى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يقضي أنه مسجد قباء؛ لأنه ليس المراد أول أيام الدنيا، بل أول أيام حلوله صلّى الله عليه وسلّم بدار الهجرة، وذلك هو مسجد قباء إلا أن يدعى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم شرع في تأسيس مسجد المدينة أيضا من أول يوم قدومه لها، أو يقال: المراد من أول يوم تأسيسه، وسيأتي في مسجد قباء أشياء صريحة في أنه المراد؛ فتعين الجمع بأن كلا منهما يصدق عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه كما هو معلوم، وأنهما المراد من الآية، لكن يشكل عليه كون النبي صلّى الله عليه وسلّم أجاب عند السؤال عن ذلك بتعيين مسجد المدينة، وجوابه أن السر في ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد به رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء كما هو ظاهر ما فهمه السائل، وتنويها بمزية مسجده الشريف لمزيد فضله، والله أعلم.
فضل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وفي الصحيحين حديث أبي هريرة «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» .
وعند مسلم:«إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء» .