ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، وسرّ أهل الخير بذلك، وتضاعفت أدعيتهم للسلطان نصره الله تعالى، وهذا من أعظم محاسنه.
[من آثار قايتباي بالحرمين الشريفين]
ومن ذلك إجراء عين خليص بعد انقطاعها مرة بعد أخرى، وهي من أحسن مناهل الحج وأعذبها، وكذلك بركة الروحاء.
ومن ذلك عمارة مسجد الخيف بعد أن تهدم بأجمعه، وإنشاء المنارة والسبيل اللذين عند بابه، وإجراء المعلوم لمن يؤذّن بتلك المنارة ولمن يؤم بالمسجد المذكور.
ومن ذلك إحداث الظل بمقدم مسجد نمرة المنسوب لإبراهيم الخليل، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، وقد كان الحجاج يقاسون به شدة من حر الشمس في ذلك اليوم، فالله تعالى يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
ومن ذلك إجراء عين عرفة من بطن نعمان، بعد أن دثرت وانمحت معالمها واندرست، وعمارة بركها ومجاريها، حتى فاضت الأنهار بأقاصيها وأدانيها، وأوصلها إلى مسجد نمرة، وأنشأ به صهريجا يجتمع فيه الماء، فأذهب بذلك عن الحج الأعظم الظمأ، وقد كنت أرى الفقراء في كل سنة في ذلك اليوم لا يسألون غالبا إلا الماء، وكان من أعز الأشياء هناك، فلم يبق له طالب، ولله الحمد، سقاه الله بذلك من حوض الكوثر.
ومن ذلك المدرسة والرباط اللذان عمر هما بمكة المشرفة، ولا نظير لهما فيها.
ومن ذلك حجه في هذا العام، فإن ذلك لم يقع لأحد من ملوك مصر من نحو مائة وخمسين سنة، وكان آخر من حج منهم الملك الناصر محمد بن قلاوون، حج ثلاث حجات:
أولاها سنة عشر وسبعمائة، وثانيتها سنة عشرين، وثالثتها سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ولم يحج أحد بعد ذلك من سلاطين مصر، وأرجو أن يفسح الله في أجل سلطاننا هذا حتى يدرك ذلك، ويتم له ما نواه من الخير بالحضرة النبوية.
وقد أنشأ بثغر اسكندرية برجا عظيما لم يسبق إليه، وشحنه بالأسلحة والجند.
ولما توجهت إلى زيادة بيت المقدس رأيت له فيه وفيما بين مصر وبينه من الآثار العظيمة ما لم أره من غيره من الملوك من المدارس والمساجد والقناطر، وهذا المحل لا يحتمل بسط ذلك، وإنما ذكرنا من آثاره الجميلة ما يتعلق بالحجاز لأنه محل الغرض.
وهو ملك مطاع، محظوظ، صبور، غير عجل، كثير الحياء والوقار والمهابة، إذا حاول أمرا لا يسرع فيه، بل يتأنى كثيرا، ويعظم أهل العلم ويجلهم.
وإنما أمتعنا بذكر ذلك هنا ليكون سببا في حث الواقف على ذلك على الدعاء لهذا الملك السعيد بإنجاح المطالب، ونيل المارب، ولتنبعث همة من جاء بعده من الملوك على أن