الصرف عن الظاهر؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم قصد به الدعاء للدار التي تكون هجرته إليها، فطلب من الله أن يصيرها أحب البقاع إليه تعالى، والحب من الله تعالى إنالة الخير والتعظيم للمحبوب، وهذا يمكن تجدده بعد أن لم يكن، وقوله:«إن مكة خير بلاد الله وأحبها إليه» محمول على أنه صلّى الله عليه وسلّم قاله في بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، فلما طالت إقامته صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وأظهر الله دينه، وتجدد لها ما سيأتي من الفضائل حتى عاد نفعها على مكة، فافتتحها الله وسائر بلاد الإسلام منها؛ فقد أنالها الله تعالى وأنال بها من الخير ما لم ينله غيرها من البلاد، وظهر إجابة الدعوة الكريمة، وأنها صارت خير أرض الله وأحبها إليه بعد ذلك، ولهذا لم يعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة بعد فتحها.
فإن قيل: إنما لم يعد إليها لأن الله افترض عليه المقام بدار هجرته.
قلنا: لم يكن الله ليفترض عليه المقام بها إلا وهي أفضل؛ لكرامته عنده، وقد حثّ صلّى الله عليه وسلّم على الاقتداء به في سكناها والإقامة بها، وقال:«والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» .
فإن قيل: قال التقي الفاسي: ظن بعض أهل عصرنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن مكة خير بلاد الله» حين خرج من مكة للهجرة، وليس كذلك؛ لأن في بعض طرق الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك وهو على راحلته بالحزورة، وهو لم يكن بهذه الصفة حين هاجر؛ لأن الأخبار تقتضي أنه خرج من مكة مستخفيا، ولو ركب بالموضع المشار إليه- وهو الذي يقول له عوام مكة عزوة- لأشعر ذلك بسفره.
قلنا: جاء في رواية لابن زبالة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين أمره الله بالخروج قال: «اللهم إنك أخرجتني» الحديث، وقد وقع في رواية لابن حبان في حديث الهجرة «فركبا- يعني هو وأبو بكر- حتى أتيا الغار- وهو ثور- فتواريا فيه» وسيأتي في أحاديث الهجرة ما يقتضي أنهما توجها إلى الغار ليلا بعد أن ذرّ صلّى الله عليه وسلّم ترابا على رؤوس جماعة من الكفار كانوا يرصدونه، وقرأ أوائل يس يستتر بها منهم، فلم يروه، فلا يمتنع أن يكون راكبا في هذا الموضع.
وأما أمر مزيد المضاعفة لمسجد مكة، فجوابه أن أسباب التفضيل لا تنحصر في المضاعفة، ألا ترى أن فعل الصلوات الخمسة للمتوجه إلى عرفات وظهر يوم النحر بمنى أفضل من فعلها بمسجد مكة، وإن اشتمل فعلها بالمسجد على المضاعفة إذ في الاتّباع ما يربو عليها، ولهذا قال عمر رضي الله عنه بمزيد المضاعفة لمسجد مكة كما سيأتي مع قوله بتفضيل المدينة، وغايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، ويؤيد ذلك ما سيأتي مع أن المضاعفة تعم الفرض والنفل، وأن النفل بالبيت أفضل، على أنه إن أريد بالمسجد الحرام في حديث المضاعفة الكعبة فقط كما ستأتي الإشارة إليه، فالجواب أن الكلام فيما