للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحكمة، وإنما اختلفوا في ذلك المعنى ما هو، فقيل: اللفظ على حقيقته، وإن ذلك روضة من رياض الجنة بمعنى أنه بعينه نقل من الجنة، أو أنه سينقل إليها، وقيل: مجاز معناه أن العبادة فيه تؤدّي إلى الجنة، أو لما ينزل فيه من الرحمة وحصول المغفرة، كما سمي مجالس الذكر رياض الجنة في حديث: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» «١» وفي رواية لأبي هريرة:

«قلت: ما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قلت: وما الرتع؟ قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر» .

وقال ابن عبد البر: لما كان صلّى الله عليه وسلّم يجلس في ذلك الموضع ويجلس الناس إليه للتعلم شبّهه بالروضة؛ لكريم ما يجتنى فيه، وأضافها إلى الجنة لأنها تؤول إلى الجنة، كقوله: «الجنة تحت ظلال السيوف» أي أنه عمل يدخل الجنة.

وقال الخطابي: روضة من رياض الجنة بالطاعة فيه، كقوله: «عائد المريض في مخرفة الجنة» «٢» أي يرجى له بذلك مخرفة الجنة؛ فأطلق اسم المسبب على سببه كقوله: «الجنة تحت أقدام الأمهات» .

هذا ما نقله الخطيب ابن حملة من المعاني، ثم تعقب الأخير بأنه لا يبقى حينئذ لهذه الروضة مزية، وقد فهم الناس من ذلك المزية العظيمة التي بسببها فضلها مالك على سائر البقاع.

وقد تعقب الجمال الريمي الخطيب في ذلك، وقال: أظهر المعاني تضعيف أجر الطاعات، وتعليم الناس وجوه الخير؛ لاتفاق الخطابي وابن عبد البر عليه، وهما عمدة الأمة في فقه الحديث، ولأن النظائر تؤيده، وأما المعنيان الآخران فلم يعزهما الخطيب إلى أحد، فدل على ضعفهما، ولم يذكر عياض القول بأن هذا الموضع بعينه نقل من الجنة، وذكر ما عداه، فدل على شذوذه؛ لأن مثل هذا طريقه التوقيف كما جاء في الركن والمقام، على أن القول به يؤدي إلى إنكار المحسوسات أو الضروريات، وجواب ما ذكره الخطيب أن المزية ظاهرة، وهو أن العمل في النظائر المتقدمة يؤدي إلى رياض الجنة، والعمل في هذا المحل يؤدي إلى روضة أعلى من تلك الرياض.

قلت: إنما حمله على هذا ذهابه إلى أن اسم الروضة يعم جميع مسجده صلّى الله عليه وسلّم، وأنه إذا


(١) ارتعوا أي انعموا في خصب وسعة.
(٢) المخرفة: البستان، والسّكة بين صفين من نخيل، والطريق الواضح، جمع مخاريف.

<<  <  ج: ص:  >  >>