وأسند ابن شبة في أخبار مكة عن إسماعيل بن سالم قال: سألت عامرا عن فتيا أفتى بها حبيب بن أبي ثابت، فقال: ألا يفتي حبيب نفسه حيث نزل مكة وهي قرية أعرابية، ولأن أنزل دوران أحب إلي من أن أنزل مكة، وهي قرية هاجر منها النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وعن الشعبي أنه كان يكره المقام بمكة، ويقول: هي دار أعرابية، هاجر منها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ألا يفتي حبيب نفسه حيث يجاور بمكة وهي دار أعرابية، وقال عبد الرزاق في مصنفه: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحجون ثم يرجعون، ويعتمرون ثم يرجعون، ولا يجاورون.
قلت: ولم أظفر عن السلف بنقل في كراهة المجاورة بالمدينة الشريفة، بخلاف مكة، لكن اقتضى كلام النووي في شرح مسلم حكاية الخلاف فيها، وكأنه قاس المدينة على مكة من حيث إن علة الكراهة وهي خوف الملل وقلة الحرمة للأنس وخوف ملابسة الذنوب لأن الذنب بها أقبح، ونحوه موجود بالمدينة، ولهذا قال: والمختار أن المجاورة بهما جميعا مستحبة إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة.
وقال الزركشي عقب نقل كلام النووي: إن الظاهر ضعف الخلاف في المدينة أي:
لما قدمناه من الترغيب فيها، ولأن كل من كره المجاورة بمكة استدل بترك الصحابة الجوار بها، بخلاف المدينة فكانوا يحرصون على الإقامة بها، وقد روى الطبراني في الأوسط حديث «من غاب عن المدينة ثلاثة أيام جاءها وقلبه مشرب جفوة» وأسند ابن أبي حثمة حديث «من كان له بالمدينة أصل فليتمسك به، ومن لم يكن له بها أصل فليجعل له بها أصلا ولو قصرة» قال ابن الأثير: القصرة محركة أصل الشجرة، أي ولو نخلة واحدة، والقصرة أيضا: العنق، وقال الخطابي: القصرة النخلة، وقرأ الحسن إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات: ٣٢] وفسروه بأعناق النخل، ورواه الطبراني في الكبير بلفظه إلى قوله «فليجعل له بها أصلا» وقال عقبه: «فليأتين على الناس زمان يكون الذي ليس له بها أصل كالخارج منها المجتاز إلى غيرها» ورواه ابن شبة أيضا بنحوه، ثم أسند عن الزهري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:«لا تتخذوا الأموال بمكة، واتخذوها الأموال في دار هجرتكم؛ فإن المرء مع ماله» وأسند أيضا عن ابن عمر حديث «لا تتخذوا من وراء الروحاء مالا، ولا تردوا على أعقابكم بعد الهجرة ولا تنكحوا بناتكم طلقاء أهل مكة، وأنكحوهن بأترابهن فأترابهن» أي: مستويات في السن في ثلاث وثلاثين سنة.
وهذا كله متضمّن للحث على سكنى المدينة وتفضيله على سكنى مكة، وهي جديرة بذلك؛ لأن الله تعالى اختارها لنبيه صلّى الله عليه وسلّم قرارا، وجعل أهلها شيعة له وأنصارا، وكانت لهم