فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انقضت الناس، فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة؟ قالوا: لا، فقال: تفكروا وتأملوا، فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئا، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج، فانشرح صدره وقال: علّي بهما، فأتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهما بقوله: أنجدني، أنقذني من هذين، فقال لهما: من أين أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجّين فاخترنا المجاورة في هذا العام عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: اصدقاني، فصمّما على ذلك، فقال: أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة، فأمسكما وحضر إلى منزلهما، فرأى فيه مالا كثيرا وختمتين وكتبا في الرقائق، ولم ير فيه شيئا غير ذلك، فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا: إنهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات في الروضة الشريفة وزيارة النبي صلّى الله عليه وسلّم وزيارة البقيع كل يوم بكرة وزيارة قباء كل سبت، ولا يردان سائلا قط بحيث سدّا خلة أهل المدينة في هذا العام المجدب، فقال السلطان: سبحان الله! ولم يظهر شيئا مما رآه، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيرا في البيت، فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك، وقال السلطان عند ذلك:
اصدقاني حالكما وضربهما ضربا شديدا، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زيّ حجاج المغاربة، وأمالوهما بأموال عظيمة، وأمروهما بالتحيل في شيء عظيم خيّلته لهم أنفسهم، وتوهموا أن يمكنهم الله منه، وهو الوصول إلى الجناب الشريف ويفعلوا به ما زيّنه لهم إبليس في النقل وما يترتب عليه، فنزلا في أقرب رباط إلى الحجرة الشريفة، وفعلا ما تقدم، وصارا يحفران ليلا، ولكل منهما محفظه جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع، فيلقيانه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة. واتفق إمساكهما واعترافهما، فلما اعترفا وظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره بكى بكاء شديدا، وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة، وهو مما يلي البقيع، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها، وأذيب ذلك الرصاص، وملأ به الخندق، فصار حول الحجرة الشريفة سورا رصاصا إلى الماء، ثم عاد إلى ملكه، وأمر بإضعاف النصارى، وأمر ألايستعمل كافر في عمل من الأعمال، وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعا، انتهى.
وقد أشار إلى ذلك الجمال المطري باختصار، ولم يذكر عمل الخندق حول الحجرة وسبك الرصاص به، لكن بيّن السنة التي وقع فيها ذلك مع مخالفة لبعض ما تقدم، فقال في الكلام على سور المدينة المحيط بها اليوم: وصل السلطان نور الدين محمود بن زنكي بن