للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كعادته، حتى خرج من باب المدينة، ولم يزل ذلك دأبه، فلم يركب بالمدينة جوادا حتى خرج منها، فلما كان وقت صلاة الجمعة حضر في ذلك المصلى فكان بيني وبينه إمامه المشار إليه أيضا، ثم قرأ شخص على شيخ المحدثين العلامة شمس الدين ابن شيخنا أبي الفرج العثماني مجلس ختم البخاري، وكأن الإمام المشار إليه تفرّس فيّ الاتصاف بطلب العلم، ففاتحني الكلام في بعض المسائل العلمية المتعلقة بذلك، فجاريته فيها، فرأيت كماله واضح البرهان، وفضله ظاهر العنوان، مع كمال الإنصاف في البحث، فانتسجت المودة حينئذ، ثم قام الإمام المشار إليه، واستمر السلطان جالسا، ثم بدأنا بالملاطفة، وشرفنا بالمحادثة، وخاض في شيء من العلم، فرأيت من تواضعه وحلمه وثقوب فهمه ما فاق الوصف، فأنشدته قول بعضهم:

كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر

ثم التقينا، فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري

وأنهيت إليه أمر الطابق المذكور، وقلت في نفسي: لعل الله تعالى أرسل هذا السلطان المسعود وجمعني به من غير قصد ليفوز بتنزيه الحضرة الشريفة من ذلك، ويكون ذلك في صحائفه، وقد قدمنا ما حاوله الملوك الماضون من سدّه مع أن المفاسد التي قدمناها لم تكن موجودة في زمنهم، وإنما تركوه كما قدمناه لمانع، ولا مانع من سده اليوم بحمد الله تعالى، فوعد بذلك. ثم وقع الاجتماع بالإمام المشار إليه فكلمته في ذلك، وقلت له: بلغني أن من بيده مفتاح الطابق المذكور يجتمع له في كل سنة نحو عشرة دنانير من هذا الطابق، ولي معلوم في جهة هذا قدره في كل سنة، فأنا أنزل عنه لمن بيده ذلك المفتاح تطييبا لخاطره، فذكر ذلك للسلطان، فقال: نحن نرضيه من عندنا، ثم إنه نصره الله تعالى حضر لصلاة المغرب، فتفضل بالبداءة بالكلام، ولم يكن إمامه حاضرا، ولكنه سبق منه التربية التامة عنده، فسألني عن الآية المنقوشة في المصلى الشريف، وهي قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: ١٤٤] الآية هل نزلت قبل المعراج وفرض الصلاة أم بعد ذلك؟ وكيف كان الاستقبال قبل نزولها؟ فشرعت في الجواب، فأقيمت الصلاة في أثناء ذلك، فلما قضى صلاته تنفل بست ركعات، ثم أقبل عليّ طالبا للجواب، فذكرت له تاريخ نزولها بالمدينة، وما فيه من الخلاف، وأن فرض الصلاة ليلة في المعراج كان بمكة، وما ذكروه في أمر استقبال بيت المقدس، وما حكي من الخلاف في تعدد نسخ القبلة، وصلاته صلّى الله عليه وسلّم بمكة بين الركنين اليمانيين جاعلا الكعبة بينه وبين بيت المقدس، إلى غير ذلك من الفوائد التي قدمناها في محلها من كتابنا هذا، واستمريت معه كذلك حتى صلينا العشاء الآخرة، فحصل منه في ذلك المجلس من الإكرام ما أرجو له به كمال المجازاة من صاحب الحضرة الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>