تعالى ذلك على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام. قال الزركشي: وفيه جمع بني الأحاديث.
قلت: الأحكام قديمة؛ لأنها خطاباته تعالى، والحادث إنما هو تعلقاتها بالمكلفين، فإذا كان ظهور تحريمها على لسان إبراهيم عليه السلام فذلك أول تعلق الحكم التكليفي، فما معنى ما يقوله الثاني من تحريمها يوم خلق الله السموات والأرض مع انتفاء التعلق التكليفي حينئذ؟ ويجوز أن يكون بمعنى أن الله تعالى أظهر ذلك لملائكته يوم خلق السموات والأرض وعرفهم به، وتأخر تعلق التكليف به حتى ظهر على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام وهذا لا يأباه القول الأول، بل يسلمه، وهو حسن، وبه يجتمع معنى الأحاديث، ولا يخفى أن خطاب الله تعالى بتحريم المدينة قديم أيضا، وتأخره من حيث التكليف إلى أن أظهره النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس فيه حط لرتبتها، بل دليل كمالها حيث ادخر الله ذلك حتى جعله على لسان أشرف المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، مع أنهم ذكروا في معنى تحريم إبراهيم لها احتمالين: أحدهما: أنه بأمر الله تعالى له، والثاني: أنه دعا لها فحرمها الله بدعوته، ويقال مثله في تحريمه صلّى الله عليه وسلّم للمدينة.
وقوله:«ما بين لابتيها» أي: حرّتيها الشرقية والغربية والمدينة بينهما، ولها أيضا حرة بالقبلة وحرة بالشام، لكنهما يرجعان إلى الشرقية والغربية لاتصالهما بهما، ولهذا جمعها صلّى الله عليه وسلّم كلها في اللابتين كما نبه عليه الطبري.
قال النووي: وهو حد الحرم من جهة المشرق والمغرب، وما بين جبليها بيان لحده من جهة الجنوب والشمال، قال: ومعنى قوله «ما بين لابتيها» اللابتان وما بينهما، والمراد تحريم المدينة ولابتيها.
قلت: ويؤيده أن اللابتين شرقا وغربا في محاذاة أحد الجبلين الآتي بيانهما، وأن منازل بني حارثة في محاذاة اللابة الغربية على ما اقتضاه كلاه المطري فيما قدمناه عنه من الباب الأول في ترجمة أثرب، والذي ترجح عندي أن منازلهم كانت باللابة الشرقية مما يلي العريض وما قارب ذلك؛ لأن الإسماعيلي روى الحديث المتقدم بلفظ:«ثم جاء بني حارثة وهم في سند الحرة» أي: الجانب المرتفع منها، وسيأتي في منازلهم ما يبين أن المراد الحرة الشرقية، وليس الموضع الذي ذكره المطري في سند واحدة من الحرتين، والله أعلم. ويؤيد أيضا ما قاله النووي أن البيهقي روى في المعرفة حديث الصحيفة عن علي بلفظ:«إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين حرتيها وجمامها: لا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا يلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها» يعني: أنشد «ولا