للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبين منى دارة الفهيدة التي عقرت لها ناقة المنسرح وعقر لها ما عقر، وذلك أنه كان تمثالا لا يكاد يبين، وله صريمة يحلب عقيلتها لأمه، فكانت حياتها لأن الناس أشتوا، فبينا هو بدارة الفهيدة في ولاية ابن هشام إذ دخلت الحمى فتركها فباتت فرآها بعض الحواط من الموالي، فطرد الصريمة أقبح الطرد، فعرض له المنسرح ليكفه، ولا سلاح معه، فطعن الناقة التي يحلبها المنسرح لأمه في ضرعها فاختلط لبنها بدمها، فحلف لا يسكن الحمى ولا يمس رأسه دهن حتى يعقر إبل من عقر ناقته، فتوجه إلى قومه، فأخبرهم خبره، وطلب سيفا قاطعا لا يقع في شيء إلا خرج منه، فأعطوه إياه، فأتى إبلا للمولى مهاري، فقال للراعي:

أنا رسول مولاكم وهو بضرية يأمركم أن تعقلوا خيار إبلكم فإنه نصيحكم لأمر حدث، وأخرج لهم عقلا، فصدقوه وحلبوا له ناقة، فوضع الإناء، فقالوا: ألا تغتبق، قال: دعوه حتى يبرد، قال: وإنما كرهت أن أشرب اللبن وأعقر إبله.

فلما غفلوا عنه أهراقه، وعقلوا من خيار الإبل نحو ثلاثين، فلما ناموا استلّ سيفه وضرب ناقة على حقيبتها فمضى حتى فلق ضرعها، وتواثبت الإبل، فطفق في المعقلة عقرا حتى أتى عليها، وقطع بعضها العقل فتبعها فما أدرك بعيرا إلا عقره، وفطن الرعاء فرأوا ما يعمل السيف، فولوا هربا، ثم دفن سيفه بالحمى، وكان أعز عليه من نفسه، وأرسل يخبر أهله، وركب صاحب الإبل في الناس حتى نظروا إليها، وقال الرّعاء لا نعرفه إلا أنه بمقام، فعرف أنه المنسرح، فأمر ابن هشام بطلبه، وأخذ إخوته وأهل بيته فحبسوا، فسمع، فجاء إلى العامل فقال: حلّ هؤلاء فأنا بغيتك، فحبسه وخلّاهم، ورفعه في وثاق إلى ابن هشام، وخرج معه بعض أهل بيته، قالوا: فلما قدمنا المدينة جعل يأتينا الرجل الشريف فيسألنا عن السيف، ويقول: أرأيتم إن خلّصت صاحبكم وضمنت عنه تأتوني بالسيف، فننكر ولا نقر بشيء من أمر السيف، فتوعّده ابن هشام وسأله أن يقر، فأبى، وكلم أصحابه نفر من بني مخزوم في أن يؤخذ صاحبهم بالبينة أو يحلف، فسأل ابن هشام خصمه البينة، فلم يقمها، فأمر بيمينه عند المنبر الشريف.

فلما قرب من المنبر وذكر له ما يحلف عليه، واندفع يحلف، شرح الله لسانه فقال:

أحلف بالله لأنا عقرت إبل فلان بيدي، ولقد برئ منها غيري، فردوه إلى ابن هشام، وابتدرته قريش كل يقول: عليّ الإبل، طمعا في السيف، ثم اختلف علماء غنى؛ فقال بعضهم: احتمل ذلك رجل من قريش، وخلي سبيله، وخرج معه رسول للسيف، فطلبه فلم يقدر عليه، وانطلق لسانه من يومئذ فسمي المنسرح.

ثم يلي كبد مني هضب الأشق. هذا آخر ما لخصته من كتاب الهجري.

<<  <  ج: ص:  >  >>