. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[المنتقى]
(الْبَابُ الثَّانِي فِيمَنْ يَصِحُّ التَّحْبِيسُ مِنْهُ، وَمَنْ يَصِحُّ التَّحْبِيسُ عَلَيْهِ وَمَا يَصِحُّ تَحْبِيسُهُ) التَّحْبِيسُ فِي الْأَصْلِ جَائِزٌ يَلْزَمُ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَلْزَمُ وَأَصْحَابُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ يَحْكُونَ عَنْهُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ إلَّا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِحُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ يُوصِي فِي مَرَضِهِ، أَوْ يُوقَفُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ مِنْ ثُلُثِهِ كَالْوَصِيَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا أَوْ سِقَايَةً فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي كَلَّمَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ مَالِكًا فِي مَجْلِسِ الرَّشِيدِ فَظَهَرَ عَلَيْهِ مَالِكٌ.
وَقَالَ لَهُ هَذِهِ أَوْقَافُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْقُلُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ خَلْفَهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ يُشِيرُ إلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ فَرَجَعَ أَبُو يُوسُفَ فِي ذَلِكَ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا فِعْلُ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ حِينَ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ وَرَأَى أَصْحَابُهُ الْمُتَأَخِّرُونَ الِاعْتِذَارَ لِقَوْلِهِ الْقَدِيمِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١] وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ بِخَيْبَرَ أَرْضًا فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي أَصَبْت أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ قَالَ: إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ بَلْ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ» وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَحْبِيسُ عَقَارٍ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى وَصِيَّةٍ وَلَا حُكْمِ حَاكِمٍ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُ فِي تَحْبِيسِ الرِّبَاعِ وَإِعْمَارِهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ الْجَوَازُ، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ وَالْعُرُوضُ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْحَبْسَ فِي الْحَيَوَانِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ مَنْ أَعْمَرَ دَابَّتَهُ، أَوْ دَارِهِ أَوْ عَبِيدَهُ فِي حَيَاتِهِ جَازَ وَيَرْجِعُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فِي تَحْبِيسِ الثِّيَابِ شَيْئًا وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ ذَلِكَ جَائِزٌ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَازِمًا لِمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَإِنْ قُلْنَا بِكَرَاهَةِ ذَلِكَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا الْجَوَازُ وَالثَّانِيَةُ اللُّزُومُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِي الْخَيْلِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِهَا وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْحَبْسَ فِي الْحَيَوَانِ فَإِنْ وَقَعَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ أَرَادَ تَغْيِيرَهُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ لِلْمُعَيَّنِ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَذَلِكَ لَهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ الْحَبْسُ فِي الْحَيَوَانِ لَازِمٌ عَلَى مَا شَرَطَ كَالرِّبَاعِ وَجْهُ اللُّزُومِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ خَالِدًا حَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَصْلٌ يَبْقَى وَيَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَالْعَقَارِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ التَّحْبِيسَ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْعَقَارِ دُونَ مَا يَنْقُلُ وَيَحُولُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوقِفَ الرَّجُلُ مِلْكَهُ عَلَى نَفْسِهِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا بِجِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ مِنْ مِلْكِهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ نَفْسَهُ مَالَهُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مَنْ حَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى جِيرَانِهِ صَحَّ حَبْسُهُ وَدَخَلَ مَعَهُمْ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مَا حَبَسَ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ حَبْسٌ، أَوْ مَوْقُوفَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ وَجْهًا تُصْرَفُ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِإِحْبَاسِ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَوَجْهُ الْحَاجَةِ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ الْمَسَاكِينِ قِيلَ لَهُ: إنَّهَا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَالَ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ وَوَجْهُهُ أَنَّ مُعْظَمَ الْبِلَادِ مُعْظَمُ حَاجَتِهَا فِي إعْطَاءِ الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ وُجُوهِ الْبِرِّ وَأَعَمُّهَا، وَأَمَّا الثُّغُورُ فَرُبَّمَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَا يُصْرَفُ فِي وُجُوهِ الْجِهَادِ آكَدُ فَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ فَيَصْرِفُ الْأَحْبَاسَ الْمُطْلَقَةَ إلَى مَا هُوَ آكَدُ