للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[المنتقى]

عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَصَحَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ عَلِمْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا أَرَادَتْ بِذَلِكَ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ تَعَلَّقَ بِأَبِيهَا وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِينَ نَزَلَ وَأَبُوهَا شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ تَوَجُّهُ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ وَقَدْ شَرَطَ فِيهِ الِاسْتِطَاعَةَ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ فَلَمْ يَتَوَجَّهْ فَرْضُهُ إلَيْهِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّهَا قَالَتْ هَلْ يُقْضَى عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ قَالُوا» .

فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَالَ لَهَا نَعَمْ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُقْضَى عَنْهُ حَجُّهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَجٌّ لَمَا قَضَتْ عَنْهُ شَيْئًا كَمَا لَا تَقْضِي عَنْهُ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْوَاجِبِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقْضَى عَنْهُ مَا وَجَبَ مِثْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَيُلْحِقُهُ ذَلِكَ بِحَالَةِ مَنْ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ فَأَدَّاهُ؛ لِأَنَّ حَالَتَهُ أَكْمَلُ مِنْ حَالَةِ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ، وَلِذَلِكَ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» أَنْ يُقْضَى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَى ابْنِهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْهُ إلَّا أَنَّ الِابْنَ إذَا أَرَادَ إلْحَاقَ أَبِيهِ بِحَالِ مَنْ أَدَّى دَيْنَهُ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ.

(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُفْسَخْ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي تَفْرِيعِهِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ دُونَ الْمَعْضُوبِ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَدْ جَاءَتْ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَنْهَضُ وَلَمْ يَحُجَّ وَعَنْ الْمَيِّتِ أَنَّهُ جَائِزٌ لِابْنِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَيُجْزِئُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

١ -

(مَسْأَلَةٌ) :

الْأَعْمَى الَّذِي يَجِدُ مَنْ يَهْدِيهِ السَّبِيلَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ أَنْ يَحُجَّ غَيْرُهُ عَنْهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَالْمَعْضُوبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: ٩٧] وَهَذَا قَدْ اسْتَطَاعَ السَّبِيلَ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ غَيْرَهُ كَالْبَصِيرِ.

١ -

(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا الْحَجُّ فِي الْبَحْرِ فَالظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ لَا سَبِيلَ لَهُ غَيْرُهُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ ثَانٍ أَنَّهُ لَا حَجَّ عَلَيْهِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ إنْ كَانَ بَحْرًا مَأْمُونًا يَكْثُرُ سُلُوكُهُ لِلتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ بَحْرًا مَخُوفًا تَنْدُرُ فِيهِ السَّلَامَةُ وَلَا يَكْثُرُ رُكُوبُ النَّاسِ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ فَرْضَ الْحَجِّ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّهُ كَرِهَ الْحَجَّ فِي الْبَحْرِ إلَّا لِمِثْلِ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ لَهُ طَرِيقًا غَيْرَهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: ٢٧] وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَحْرَ قَالَ سَحْنُونٌ فِي غَيْرِ الْمَجْمُوعَةِ وَلَا يَلْحَقُ النَّاسَ فِيهِ مِنْ الْعَجْزِ مَا يَعْجِزُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ فِي الْبَحْرِ لَا خِلَافَ فِي إبَاحَتِهِ.

وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الْجِهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [النحل: ١٤] فَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ مَنْعِ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي التِّجَارَاتِ فَبِأَنْ يَجُوزَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ مَعَ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَقَدْ أُبِيحَ لَنَا السَّفَرُ فِي الْبَرِّ وَمَوَاضِعَ يُعْدَمُ فِيهَا الْمَاءُ وَإِنْ كَانَ يَتَعَذَّرُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ الَّتِي مَقْصُودُهَا الصَّلَاةُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>