للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ: بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِئْسَ مَا قُلْت فَقَالَ الرَّجُلُ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا مِثْلَ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ مِنْ الْأَرْضِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَعْنِي الْمَدِينَةَ» ) .

ــ

[المنتقى]

وَهُوَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: هَؤُلَاءِ أَنَا شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ بِمَا شَاهَدْت مِنْ عَمَلِهِمْ فِي الْجِهَادِ الَّذِي أَدَّى إلَى قَتْلِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ شَهِيدٌ لِمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَقَاتَلَ وَسَلِمَ مِنْ الْقَتْلِ كَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَبْلَى ذَلِكَ الْيَوْمَ وَمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ قُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَكِنَّهُ خَصَّ هَذَا الْحُكْمَ بِمَنْ شَاهَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِهَادَهُ إلَى أَنْ قُتِلَ وَيَكُونُ عَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَلَى وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَدَثَ الْمُضَادَّ لِلشَّرِيعَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الْمُوَافِقَةِ لِلشَّرِيعَةِ وَالْمُخَالِفَةِ لَهَا فَيَكُونُ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا تَعْلَمُونَهُ بَعْدِي لَا أُشَاهِدُهُ فَلَا أَشْهَدُ لَكُمْ بِهِ وَإِنْ عَلِمْت أَنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تُعَيَّنْ لِي فَيُقَالُ لِي: إنَّهُ يُجَاهَدُ فِي مَوْطِنِ كَذَا وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْكُمْ يَقْتُلُ زَيْدًا أَوْ يَقْتُلُهُ عُمَرُ وَكَمَا شَاهَدْت مِنْ حَالِ هَؤُلَاءِ فَلِذَلِكَ لَا أَكُونُ شَهِيدًا لَكُمْ بِنَفْسِ الْأَعْمَالِ وَتَفْصِيلِهَا كَمَا أَشْهَدُ عَلَى تَفْصِيلِ عَمَلِ هَؤُلَاءِ وَإِنْ شَهِدْت لِبَعْضِكُمْ بِجُمْلَةِ الْعَمَلِ بِالْوَحْيِ وَإِعْلَامِ اللَّهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي مُتَوَجِّهًا إلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ بَكَى ثُمَّ قَالَ: أَئِنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَك يُرِيدُ أَنَّهُ أَطَالَ الْبُكَاءَ وَكَرَّرَهُ وَأَظْهَرَ مَعْنَى بُكَائِهِ بِقَوْلِهِ أَئِنَّا لَكَائِنُونَ بَعْدَك كَأَنَّهُ لِلْإِشْفَاقِ مِنْ الْبَقَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالِانْفِرَادِ دُونَهُ وَفَقْدِ بَرَكَتِهِ وَنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى أُمَّتِهِ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَى وَلَكِنْ لَا أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ بَعْدِي أَنَّهُ لَا يَخَافُ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ حَدَثٌ يُضَادُّ الشَّرِيعَةَ وَيُخَالِفُ بِهِ مِنْ أَجْلِهِ عَنْ سَبِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ بُكَاءَهُ لِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى لَهُ وَكَانَ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ أَإِنَّا لَمُحْدِثُونَ بَعْدَك حَدَثًا يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِك وَنُخَالِفُ بِهِ طَرِيقَتَك وَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَا بَكَى مِنْ أَجْلِهِ وَإِنَّمَا بَكَى مِنْ أَجْلِ فِرَاقِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقَائِهِ بَعْدَهُ عَلِمْنَا أَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(ش) : قَوْلُهُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَصَدَ ذَلِكَ لِمُوَاصَلَةِ مَنْ كَانَ الْقَبْرُ يُحْفَرُ بِسَبَبِهِ أَوْ لِفَضْلِ الْمَقْبُورِ فِيهِ وَدِينِهِ وَقُرْبِ مَحَلِّهِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِلِاتِّعَاظِ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَلَسَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَصَادَفَ حَفْرَ الْقَبْرِ وَقَوْلَ الْمُطَّلِعِ فِي الْقَبْرِ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ وَيَحْتَمِلُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الْمَكَانَ وَقَدْ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْهُ فَلَوْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاعْتَقَدَ بَعْضُ السَّامِعِينَ لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَقَرَّهُ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الْمَدِينَةَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِئْسَ مَا قُلْت يَحْتَمِلُ إمَّا أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ عَيْبَ الْقَبْرِ وَتَفْضِيلَ الشَّهَادَةِ لَكِنَّ اللَّفْظَ لَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ الِاحْتِمَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ فِي الْقَبْرِ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ لَهُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ وَسَبَبٌ إلَى الرَّحْمَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ إنَّ الشَّهَادَةَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ فَاضِلَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْآخَرِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَفْضُولِ بِئْسَ هَذَا الْأَمْرُ وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي فَأَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

<<  <  ج: ص:  >  >>