الثانية الإخلاص، فإن أقيمت مكتوبة أو خاف فوتها بدأ بها، وحصلت التحية بها، فإذا فرغ حمد الله، وأثنى عليه على ما منحه من هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة.
قال الكرماني وصاحب الاختيار من الحنفية: إنه يسجد بعد الركعتين شكرا لله تعالى، ويبتهل إليه في أن يتمم له ما قصد من الزيارة مع القبول، وأن يهب له من مهمات الدارين نهاية السّول.
ونقل الزين المراغي عن بعض مشايخه أن محل تقديم التحية على الزيارة إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف، فإن كان ذلك استحبت الزيارة أولا، مع أن بعض المالكية رخّص في تقديم الزيارة على الصلاة، وقال: كل ذلك واسع.
والحجة في استحباب تقديم التحية ما نقله البرهان ابن فرحون عن ابن حبيب أنه قال في كتاب الصلاة: حدثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسلم عليه وهو بفناء المسجد، فقال: أدخلت المسجد فصليت فيه؟ قلت: لا، قال: فاذهب فادخل المسجد وصل فيه ثم ائت فسلم علي.
وقال اللخمي في التبصرة في باب من جاء مكة ليلا: ويبتدئ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بتحية المسجد قبل أن يأتي القبر ويسلم، هذا قول مالك. وقال ابن حبيب: يقول إذا دخل: بسم الله، والسلام على رسول الله، يريد أن يبتدئ بالسلام من موضعه، ثم يركع، ولو كان دخوله من الباب الذي بناحية القبر ومروره عليه فوقف فسلم ثم عاد إلى موضع يصلي فيه لم يكن ضيقا، انتهى.
قلت: وليس في كلام ابن حبيب مخالفة لما ذكره مالك؛ إذ مراده أن الداخل من باب المسجد يستحب له الصلاة عليه؛ لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وليصل، وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم» ولأن ابن حبيب ذكر بعد ذلك صلاة التحية، ثم الوقوف بالقبر، والسلام، والله تعالى أعلم.
ومنها: أن يتوجه بعد ذلك إلى القبر الكريم، مستعينا بالله تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم، فيقف بخشوع وخضوع تامين تجاه مسمار الفضة الذي بجدار الحجرة المتقدم بيانه في محله لجعله في موضع محاذاة الوجه الشريف، وربما منع باب المقصورة التي حول الحجرة الشريفة الواقف للزيارة خارجها من مشاهدة ذلك المسمار إلا بتأمل يشغل القلب ويذهب الخشوع فليقصد المصرعة الثانية من باب المقصورة القبلي