وقال فيه: وهي الأسطوان المخلق نحو من ثلثيها، تدعى أسطوان التوبة، منها حل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا لبابة حين نزلت توبته، وبينها وبين القبر أسطوان.
وأسند أيضا عن ابن عمر أنه كان يقول في الأسطوان التي ارتبط إليها أبو لبابة: هي الثانية من القبر، وهي الثالثة من الرحبة.
قلت: كانت الثلاثة من الرحبة قبل تجدد الأسطوانتين المشار إليهما في أسطوانة القرعة بسبب تجدد الرواقين الآتي ذكرهما، وهذه الأسطوانة إلى جانب الأسطوانة المتقدم ذكرها من جهة المشرق؛ فهي الرابعة من المنبر، والثانية من القبر، والثالثة من القبلة، والخامسة في زماننا من رحبة المسجد، وفيها اليوم هيئة محراب من الجص تتميز به عن سائر الأساطين، لكنه أزيل في الحريق الثاني.
وفهم البدر بن فرحون من رواية ابن عمر المتقدمة أنها التي تلي هذه الأسطوانة في جهة المشرق، وهي اللاصقة بالشباك اليوم كما سيأتي، فقال: إن أسطوان التوبة هي اللاصقة بالشباك على ما قاله عبد الله بن عمر، وتبعه مالك بن أنس، وما قيل إنها غيرها فغلط أوجبه أشياء يطول ذكرها، انتهى كلامه.
قلت: بل الصواب ما قدمناه في بيانها، ومنشأ ما فهمه عدّه للأسطوانة اللاصقة بجدار القبر، فحمل قول ابن عمر أنها الثانية من القبر، وقول مالك بينها وبين القبر أسطوان على الأسطوانة اللاصقة بالشباك اليوم، وقد علم من كلامهم في أسطوان القرعة أنهم لا يعدون اللاصقة بجدار القبر لما تقدم من قولهم فيها: إنها الثالثة من المنبر والثالثة من القبر، ولو عدوا اللاصقة بجدار القبر لكانت الرابعة من القبر، وأيضا فاللاصقة بجدار القبر أحدثها عمر بن عبد العزيز، ولم يدرك ذلك ابن عمر، وأوضح من ذلك أن ابن زبالة قال: إن بين أسطوان التوبة وبين جدار القبر الشريف عشرين ذراعا، وقد اعتبرت ذلك من الأسطوانة التي ذكرناها فكان كذلك.
وقال أيضا فيما قدمناه عنه:«إن ذرع ما بين مصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينها سبع عشرة ذراعا» وقد قدمنا في المصلى الشريف ما يقتضي صحة ذلك عند اختبارنا لما بينهما مع بيان أن المصلى الشريف في طرف الحفر الذي يلي المغرب، وإن جعل المصلى الشريف على تلك الهيئة حادث، وفي نسخة من ابن زبالة «تسع عشرة ذراعا» بتقديم التاء، فإن صحت فقد علمت أنه لم يكن المصلى الشريف في عهد ابن زبالة على هذه الهيئات، بل كانت الأرض مستوية، فكأنه اعتبر الذراع من ابتداء طرف المصلى الشريف الغربي، ومنه إلى الأسطوان