وكان ذلك سببا لإصلاح أصل الأسطوانة التي كان بها، فلما قلعوا الصندوق المذكور ظهر فيه قوائم صندوق عتيق، وفي تلك القوائم أثر الحريق، وكأنهم جددوا عليه صندوقا، وجعلوا ذلك المحترق في جوفه، وقد أعيد كذلك.
وقد ذكر المجد الشيرازي هذا الصندوق والقائم فقال: وفي الصفحة الغربية من الحجرة الشريفة صندوق آبنوس مختم بالصندل مصفح بالفضة مكوكب بها، هو قبالة رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه أسطوان، وفوق الصندوق قائم من خشب مجدد، وأما الصندوق فطوله خمسة أشبار وعرضه ثلاثة أشبار وارتفاعه في الهواء أربعة أشبار.
قلت: وقد ظفرت بذلك كله في كلام ابن جبير في رحلته، غير ما يتعلق بالقائم المذكور، ومن ذلك أخذ المجد وصف القائم بكونه مجددا، وكانت رحلة ابن جبير عام ثمانين وخمسمائة، فاستفدنا بذلك وجود ذلك الصندوق قبل الحريق في ذلك الزمان، وما ذكره من أن الصندوق المذكور قبالة الرأس الشريف فيه تجوّز؛ لأنه قد ظهر لنا في هذه العمارة أنه في محاذاة الجدار الداخل القبلي، وسيأتي أن الوجه الشريف إلى الجدار؛ فالرأس الشريف متأخر عن الصندوق المذكور يسيرا.
ومستند المجد وغيره في هذا الإطلاق ما روى جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه عن أبيه عن جده أنه كان إذا جاء يسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم وقف عند الأسطوانة التي تلي الروضة، ثم يسلم، ثم يقول: ها هنا رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به ما قدمناه، والله أعلم.
وذرع الصندوق المذكور في الارتفاع ذراع ونصف وربع بذراع اليد، وأعلى القائم فوقه محاذ لرأس الوزرة الرخام، وطول القائم المذكور ثلاثة أذرع، وهو خمس صفحات ألصق بعضها على بعض وجعلت محيطة بما ظهر من الأسطوانة التي الصندوق بأصلها فوقه؛ فإن بعض الأسطوانة في البناء الملاصق لها من الحائز المذكور ولو أحاطت الصفحات بجميع الأسطوانة لكانت أكثر من خمس، ولكانت شكلها مثمنا، وهو مختم بالخشب الأسود الهندي، معصب بصفائح الفضة المموهة طولا وعرضا بأحسن صناعة، وصفائحه الطولية من الفضة أربع، والمقاطعة لها من جهة العرض خمس، وفي رأسه من أعلاه حلية رقيقة كالزيق، وزنة ما عليه من الفضة زيادة على ألفي قفلة، وأخذوا لأجل تمويهه من حاصل المسجد أربعين مثقالا من الذهب كما أخبرني به متولي العمارة.
وأما الصندوق فلم يغير، كله مغشى بالفضة، وقد احترق في حريق المسجد الثاني، ووجدوا حليته من الفضة، فجددوا صندوقا في محله وجعلوا موضع القائم الذي كان فوقه رخاما كتوبا فيه البسملة والصلاة والتسليم على النبي صلّى الله عليه وسلّم والترضي عن أصحابه وغير ذلك.