الشريفة، وذلك في صبيحة الثالث والعشرين من شعبان المذكور، ومكثوا في ذلك إلى غروب الشمس مع كثرتهم حتى بلغني أن الحجرة الشريفة امتلأت بهم، ولم يخصوا مكانا دون مكان، فظنوا أن القبر الشريف النبوي قريبا من وسط الحجرة، وليس كذلك كما سنبينه، ووضعوا ما أخرجوه من الردم عند طرف المسقف الغربي في زاويته المتصلة بمسقف الدكاك، وبنى عليه متولي العمارة تلك الدكة البارزة هناك. ثم وفّى القضاي الزكوي بما وعد به متولي العمارة من كتابة المحضر، وكتب فيه أهل المدينة، ولم أكتب فيه، واعتذرت بأنه لم يسبق لي عادة بمثل ذلك، وبعثوا به إلى مصر المحروسة، فلما كان في صبيحة الخامس والعشرين من الشهر المذكور بعث إليّ متولي العمارة لأتبرك بمشاهدة الحجرة الشريفة بعد تنظيفها، وصار قائل يقول: ظهر القبر الشريف، وقائل يقول: لم يجدوا لجميع القبور الشريفة أثرا، فحثّني داعي الشوق وغلبة الوجد، واستحضرت ما وقع لبعض السلف من سؤاله لعائشة رضي الله عنها أن تريه القبور الشريفة، وغير ذلك مما سبق ومما سيأتي في باب الزيارة، ووصف السلف للقبور الشريفة، وذكرهم ذرع الحجرة الشريفة وكيفيتهما كما تقدم، فعزمت على الإقدام، وتمثلت بقول بعضهم:
ولو قيل للمجنون أرض أصابها ... غبار ثرى ليلى لجدّ وأسرعا
لعلّ يرى شيئا له نسبة بها ... يعلّل قلبا كاد أن يتصدعا
فتطهرت وتوجهت لذلك مستحضرا عظيم ما توجهت إليه، وموقع المثول ببيت أوسع الخلق كرما وعفوا، وذلك هو المعول عليه، واستحضرت بقول بعضهم:
عصيت فقل لي كيف ألقى محمدا ... ووجهي بأثواب المعاصي مبرقع
ثم أنشدت الذي يليه:
عسى الله من أجل الحبيب وقربه ... يداركني بالعفو فالعفو أوسع
وسألت الله أن يمنحني حسن الأدب في ذلك المحل العظيم، ويلهمني ما يستحقه من الإجلال والتعظيم، وأن يرزقني منه القبول والرضى، والتجاوز عما سلف ومضى، فاستأذنت ودخلت من مؤخر الحجرة، ولم أتجاوز ذلك المحل، فشممت رائحة ما شممت في عمري رائحة أطيب منها، ثم سلمت بوجل وحياء، على أشرف الأنبياء، ثم على ضجيعيه خلاصة الأصفياء، ودعوت بما تيسر من الدعوات، وتشفعت بسيد أهل الأرض والسموات، واستنزلت به في بيته من الأزمات، واغتنمت هذه الفرصة في جميع الحالات، ولله در القائل:
تمتّع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصّل ما استطعت من ادّخار