وعلق منها شيء بالمنارة الرئيسية فاحترقت، ووصلت النار لثياب الريس شمس الدين محمد رحمه الله تعالى فاحترقت بعد موته، وصارت النار ترمي بشرر كالقصر فتسقط بالبيوت المجاورة للمسجد، ومع ذلك فلا تؤثر فيها، حتى سقط بعض الشرر على سعف فلم يحترق، وحمل بعض خزائن الكتب من تحت سقف المسجد إلى صحنه فأصابها الشرر فأحرقها.
ونقل عن جمع كثير أنهم شاهدوا حينئذ أشكال طيور بيض كالإوز يحومون حول النار كالذي يكفها عن بيوت الجيران.
وأخبر أمير المدينة الشريفة السيد الشريف زين الدين فيصل الجمازي أن شخصا من العرب صادق الكلام رأى في المنام ليلة ثاني عشر من شهر رمضان أن السماء فيها جراد منتشر، ثم عقبته نار عظيمة، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم النار وقال: أمسكها عن أمتي، فجزاه الله عن أمته- خصوصا عن جيرانه- أفضل ما جزى نبيّا عن أمته.
وحكى أيضا عن بواب رباط السبيل أنه ذكر مثل تلك الرؤيا عن غيره، كتب لي بذلك صاحبنا العلامة شيخ المحدثين بالحرم النبوي الشيخ شمس الدين بن شيخنا العلامة ناصر الدين العثماني أمتع الله به.
هذا ما حصل لأهل المدينة الشريفة من الدهشة العظيمة والحيرة لما شاهدوا من هول هذه النار ومنظرها الفظيع، حتى أيقن بعضهم بالهلاك، وانتقل بعض أهل الدور منها لما وصل إليهم الشرر، وخرج بعضهم من باب المدينة الذي يلي البقيع، وبعضهم من بابها الذي يلي المصلى، وظنوا أن النار محيطة بهم. قال الشمس العثماني: وصار لجميع المدينة من جميع جهاتها بالبكاء ضجيج، وبالدعاء عجيج، قال: وأمر هذه النار عجيب، وليس الخبر كالمعاينة، وصار المسجد كالتنور، ولم يمض إلا أقل من عشر درج وقد استولى الحريق على جميع سقف المسجد وحواصله وأبوابه وما فيه من خزائن الكتب والربعات والمصاحف، غير ما وقعت المبادرة لإخراجه أولا وهو يسير، وغير القبة التي بصحن المسجد، وسبق ذكر سلامتها في الحريق الأول، وكنت تركت كتبي بالخلوة التي كنت أقيم بها في مؤخر المسجد، فكتب إلّي باحتراقها، ومنها أصل هذا التأليف وغيره من التاليف والكتب النفيسة نحو ثلاث مائة مجلد، فمنّ الله تعالى عليّ ببرد الرضى والتسليم، وفراغ القلب عن ذلك، حتى ترجحت هذه النعمة عندي على نعمة تلك الكتب لما كنت أجده قبل من التعلق بها؛ فلله الحمد والشكر على ذلك. هذا، مع ما منّ الله به علي من غيبتي عن هذا الأمر المهول؛ فإن وقوعه كان في ليلة الوصول إلى الحرم المكي، ولم يتفق لي منذ سكنت المدينة الخروج منها في رمضان، بل كنت ألازم المسجد النبوي فيه من أوله إلى آخره ليلا ونهارا، فكان ذلك سبب النجاة من هذا الأمر.