ولما اشتعلت النار في السقف المحاذي للحجرة الشريفة ذاب الرصاص من القبة التي بسقف المسجد الأعلى، واحترقت أخشابها وما يحاذيها من السقف الأسفل والشباك الدائر على حائز عمر بن عبد العزيز الذي تعلق الكسوة بأعلاه، وسقط ما سقط من ذلك على القبة السفلى التي تقدم تجديدها، فلما أصبحوا بدأوا بطفي ما سقط على القبة المذكورة، واستمروا في ذلك إلى آخر النهار، فسلمت القبة المذكورة مع أن بعضها من الحجر الأبيض الذي يسرع تأثره بالنار، وذلك من المعجزات النبوية؛ لأن كثيرا من أساطين المسجد الشريف سقطت لما ذاب بعض رصاصها وتهشمت وهي من الحجر الأسود، ومع ذلك تفتت كأنه أحجار النورة، وعدة ما سقط منها مائة وبضع وعشرون أسطوانا، وما بقي منها فقد أثرت فيه النار أثرا بينا، وسلمت الأساطين اللاصقة بجدار الحجرة أيضا؛ فالحمد لله على حماية الحجرة المنيفة، الحاوية للقبور الشريفة، واحترقت المقصورة التي كانت حول الحجرة الشريفة والمنبر الشريف وما كان أمام المصلى المنيف بالروضة الشريفة من الصندوق وما عليه من المحراب المتقدم وصفه، وسقطت أكثر عقود المسجد، وما بقي منها فهو آيل إلى السقوط، وسقط علو المنارة الرئيسية، ثم خشوا من سقوط بعض ما بقي منها فهدموا نحو ثلثها، وكتبوا إلى سلطان مصر مولانا الأشرف سلطان الحرمين الشريفين قايتباي أيد الله أنصاره بذلك سادس عشر رمضان، واقتضى رأي نائب الناظر سد أبواب حواصل المسجد حتى القبة التي بوسطه المرصد فيها زيت مصابيحه، وترك الردم على حاله حتى ترد الأوامر الشريفة فتضرر الناس بذلك، فاتفقت الآراء على تنظيف مقدم المسجد ما عدا ما جاور الحجرة الشريفة خوفا على ما سقط من حلية قناديلها، مع أنها يسيرة كما يؤخذ مما سبق، فجعلوا على ذلك حاجزا من الآجرّ، ونقلوا هدم مقدم المسجد إلى ما يلي باب الرحمة من مؤخره، وعمل في ذلك أمير البلد والقضاة والأشراف وعامة الناس حتى الكثير من النساء والأطفال تقربا إلى الله تعالى بغير أجرة، ولم يتأخر عن ذلك إلا المخدّرات من النساء.
وبنوا في محل المنبر منبرا من آجر، وصلّوا بالمصلى النبوي من حينئذ، وعملوا لأبواب المسجد غير باب جبرائيل خوخا يدخل منها، وسدوا ما زاد على ذلك، ونصب الخدام خياما بالمسجد إذ لم يبق به ظل، وصار بعض أهل الخير يسرج قناديل متعددة من عنده في المسجد مع توفر الزيت بحاصله، لكن تعذر ذلك بسبب سدّه، واستمرت النار فيما لم ينقل هدمه من المسجد حتى فيما حول الحجرة الشريفة وموقف الزائرين تجاه الوجه الشريف، وأخبر بعضهم بمشاهدة الدخان يتصاعد من ذلك المحل الشريف بعد مدة، وفي أثناء شوال أخبر قاضي المالكية شمس الدين السخاوي حفظه الله تعالى أنه رأى في النوم من يقول له:
أطفئوا النار من الحجرة الشريفة، يعني الموضع الذي تركوا تنظيفه حولها، فتفقدوا ذلك