فوجدوا النار في ثمانية مواضع، فأطفؤوا ذلك، ثم رأوا أن مادة هذه النار لا تنقطع إلا بتنظيف الردم، فاجتمعت الآراء على ذلك بعد توقّف تام من نائب الناظر، وعيّنوا لتعاطيه من يثقون به من الخدام والفقهاء والفقراء، وكان الصواب المبادرة لذلك أولا، ولكن على كل خير مانع، ولا يدري أحد أسرار ما الله في عباده صانع، ولما نظفوا ذلك وجدوا حلية الصندوق المجعول في جهة الرأس الشريف وجانبا من الكسوة وبعض البسط سالما لسقوط الردم عليه، ووجدوا القناديل التي كان التخوّف في تنظيف ذلك المحل لأجلها، وأداروا على الحجرة الشريفة جدارا من الآجر في موضع المقصورة المحترقة، وجعلوا فيها شبابيك وطاقات وأبوابا، وقام بمصروف ذلك بعض النساء المباركات وغيرها، وسامح البناؤون بنصف أجرهم مع توفر المصروف بحاصل المسجد الشريف، وأحضرت تلك المرأة أيضا وغيرها كسوة للحجرة الشريفة من القماش الأبيض فجعلت عليها.
وفي ذلك كله عبرة تامة وموعظة عامة لأولي الأبصار، وهو منذر بأمر عظيم، ولهذا اختص به هذا المحل المنسوب إلى النذير صلّى الله عليه وسلّم، وقد ثبت أن أعمال الأمة تعرض عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلما ساءت منا الأعمال المعروضة ناسب ذلك الإنذار بإظهار عنوان النار المجازي بها في موضع عرضها، ولم أزل في وجل مما يعقب ذلك حيث لم يحصل الاتعاظ والانزجار، وقد قال تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: ٥٩] ، وقال تعالى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: ١٦] وكأن لسان القدرة ينادي: ألا تتعظون بما ترون وتسمعون؟ ألا تنتهون وتنزجرون؟ ألا ترون إلى هذا المحل الشريف مع عظيم نسبته وعلو رتبته ومكانته لما تلوّث باثاركم معشر المذنبين، وتدنّس بأقذاركم كافة الغافلين، أرسلت عليه بحرا من النار السماوية تطهره من تلك الآثار، وتزجركم عن التمادي على الإصرار، وموالاة اتباع الأوزار، وتشهد بصائركم عموم القدرة، فترسلون من الأبصار سوابق العبرة، تأسفا على ما اجترحتموه قبل هذه العبرة، فمن لم ينته بهذا الزاجر الفعلي عن إصراره، ولم يقتبس من هذه النار العظيمة قبسا يهتدي بأنواره، فلينظر فيما حدث عقيب حريق المسجد القديم، ويتفكر في ضعفه عن احتمال العذاب الأليم، حمانا الله من ذلك، وسلك بنا أجمعين أحسن المسالك.
ومن العجائب أنه لم يتأتّ إخراج ردم هذا الحريق بعد نقله لمؤخر المسجد حتى حضر الحجّاج من سائر الآفاق للزيارة، وشاهدوا هذه العبرة العظيمة، ورأوا ما اجتمع من الردم كالآكام والتلول الجسيمة، ثم قبيل دخول الحاج مكة بالقعدة الحرام من العام الثاني أرسل الله سيلا عظيما بمكة المشرفة ملأ ما بين الجبلين وعلا جدار أبواب المعلى، ودخل جوف الكعبة الشريفة، وارتفع فيها أزيد من قامة وهدم دورا كثيرة يقال إنها تزيد على ألفي دار،