وذهب بسبب ذلك من الأموال والأنفس ما لا يحصيه إلا الله تعالى، حتى أنهم ضبطوا من وجد تحت الردم بالمسجد الحرام فقط عند تنظيفه فكانت عدتهم نحو الثمانين، وقيل أزيد من مائة، ولم أقف فيما نقل من سيول الجاهلية والإسلام على مثل ذلك، ولما نظفوا ذلك الردم- وهو أتربة ونقض هدم حملها السيل- لم يتأتّ إخراجه قبل وصول الحجاج وصار ذلك كالآرام والتلول العظيمة في المسجد الحرام، فحضر الحجاج كلهم وشاهدوا ذلك، فسبحان من بيده الخلق والأمر لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ولما وصل خبر الحريق لرودس من بلاد النصارى أظهروا بذلك فرحا واستبشارا، وتظاهروا بالزينة وضرب النواقيس، فلم يمض ذلك اليوم إلا وقد أرسل الله عليهم زلازل عظيمة هدمت عليهم جانبا من سور البلد والكنيسة وكثيرا من دورهم، وهلك منهم بذلك خلائق لا يحصون، ودامت الزلازل عليهم، أياما، شاهدت ذلك في كتب وردت من ثغر إسكندرية بخط من يعتمد عليه، وذكروا أن المخبر لهم بذلك أهل المراكب الواردة من رودس المذكورة، وأنهم سافروا والزلازل مستمرة بها، وهم يخرجون الموتى من تحت الهدم بعد انتقال من بقي إلى خارج البلد، فتأمل هذه المعجزات النبوية، والآيات الربانية.
ولما وصل القاصد إلى مصر المحروسة، واتصل علم الحريق المذكور بسلطانها، عظم ذلك عليه، وبرزت أوامره الشريفة بالمبادرة إلى تنظيف المسجد الشريف، ورأى أن في تأهيل الله تعالى له لعمارة ذلك مزيد التشريف، وكمال التعريف، وأنه كرامة من الله تعالى أكرمه بها، وذخيرة يرجو الفوز بسببها، فاستقبل أمر العمارة بهمة تعلو الهمم العلية، ورسم بإبطال عمائره المكية، وبتوجه شادها السيفي الأمير سنقر الجمالي صحبة الحاج الأول بزيادة على مائة صانع من البنائين والنجارين والنشارين والدهانين والحجارين والنحاتين والحدادين والمرخّمين وغيرهم، وكثير من الحمير والجمال، وصحبته وصحبة أخيه المقر الأشرفي الشجاعي شاهين والأمير قاسم الفقيه شيخ الحرم الشريف مبلغ عشرين ألف دينار، وشرع السلطان في تجهيز الآلات والمؤن حتى كثرت في الطّور والينبع والمدينة الشريفة.
ثم جهّز متولي العمارة الأولى بالمدينة الشريفة- وهو الجناب العالي الخواجكي الشمسي شمس الدين بن الزمن- في أثناء ربيع الأول وصحبته أكثر من مائتي جمل ومن مائة حمار وأزيد من ثلثمائة من الصناع أهل الصنائع الأولى وغيرهم من الحمالين والمبيضين والسباكين والجباسين، وأصرفوا لهم شيئا من الأجرة قبل سفرهم، وقد صارت أحمال المؤن متواصلة قلّ أن تنقطع برا وبحرا، واستقبلوا أمر العمارة بجد واجتهاد، فهدموا المنارة الرئيسية التي أصابها الحريق إلى أساسها، وهدموا من سور المسجد من ركن المنارة التي بباب السلام إلى آخر جدار القبلة وما يليه من المشرق إلى باب جبريل، وما يلي المنارة من المغرب أيضا إلى