ثم استبدل متولي العمارة الرباط المعروف بالحصن العتيق وما في شاميه من المدرسة الجوبانية والدار التي كانت تعرف بدار الشباك- وذلك كله فيما بين باب الرحمة وباب السلام- عند هدم هذا الجانب من الجدار الغربي ليتخذ في ذلك مدرسة ورباطا لسلطان زماننا الأشرف أدام الله تعالى تأييده وتسديده، واتخذ في الجدار المذكور فتحات لشبابيك كثيرة في ثلاث طبقات عدتها ثلاثون فتحة، لأن الفتحة الثالثة من على يسار الداخل من باب السلام في موضع باب خوخة أبي بكر الصديق الآتي ذكرها في أبواب المسجد، جعلوه بابا ينفذ إلى المسجد، وكذا الفتحتان اللتان بينها وبين باب السلام جعلوا لهما بابين إلى المسجد فقط، وصارت هذه الأبواب الثلاثة في المسجد دون المدرسة من أصل حاصل المسجد الذي كان هناك، والفتحة الخامسة- وهي الثالثة من خوخة أبي بكر- جعلوها بابا ينفذ من المسجد إلى أسفل المدرسة، وجعلوا على الفتحات التي في الطبقة العليا شبكة من شريط النحاس شبه الزرد؛ لأنها جعلت لمجرد الضوء، وقد تكلم الناس مع متولي العمارة في أمر الشبابيك واتخاذها بجدار المسجد الشريف القبلي قبل انتقاله إلى هذه الجهة، وكثر الكلام في ذلك، فكاتب السلطان فاستفتى علماء مصر في ذلك فأفتاه جماعة منهم بذلك، فقلدهم فيه، وعوض ما فات من المصاحف والربعات، وبعث بعض ذلك على يدي بحيث اجتمع من ذلك أكثر مما فات، وكذلك الكتب بعث بجانب منها ووعد بإرسال ما يحتاج إليه، وكان من التوفيق بعثه للأمير الكبير الفخري قاسم الفقيه ناظرا على المسجد الشريف وشيخا لخدامه، وهو محب للعلم وأهله، مغرم بتلاوة القرآن الشريف، لم ير على طريقته مثله في هذا الباب؛ فصار يباشر أمر الرّبعات والمصاحف بنفسه ومماليكه، واتخذ لها كراسيّ صغارا يوضع عليها بالروضة الشريفة في أوقات الصلوات النهارية، فيقرأ هو والناس فيها؛ فعم نفعها.
ولما قارب المسجد التمام أخذوا في عمارة الرباط والمدرسة المذكورين، وأسسوا لهما منارة في ناحيتهما التي تلي باب الرحمة، وشرعوا أيضا في عمارة رباط آخر بدل رباط الحصن العتيق، وفي حمام قبالة الرباط المذكور استأجروا أرض الحمام من الناظر على الميضأة التي بباب السلام فإنها منها، وشرعوا أيضا في عمارة سبيل وفرن وطاحون ومطبخ للدشيشة ووكالة ذات حواصل في الدور التي اشتروها قبل ذلك للسلطان من دور العباس وما يلي ذلك في جهة القبلة، وذلك أن السلطان أعز الله تعالى أنصاره بعد رجوعه من الحج شرع في شراء أماكن وجعلها وقفا ليحمل ريعها إلى المدينة الشريفة ليفرّق منه على أهلها ويعمل منه سماط كسماط الخليل عليه السلام، وأبرز لذلك ستين ألف دينار كما ذكرناه في الفصل الثالث والثلاثين، فاتخذوا هذه الأماكن لذلك، وهو أمر لم يسبق إليه، فسح الله تعالى في أجله، وبلغه من الخير غاية سؤاله وأمله، ولم يكن بالمدينة الشريفة حمام قبل ذلك من مدة مديدة، وكذا الطاحون، وإنما يستعملون الأرحاء التي تدار بالأيدي.