للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[المنتقى]

لَا يَحْكُمُ فِي شَيْءٍ أَصْلًا بِعِلْمِهِ عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِ غَيْرِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ غَيْرِهَا قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ قَالُوا وَكَذَلِكَ مَا وُجِدَ فِي دِيوَانِهِ مِنْ إقْرَارِ الْخُصُومِ مَكْتُوبًا، وَجَوَّزَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَسَحْنُونٌ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: ٤] فَيَقْتَضِي الْعُمُومُ أَنْ يُجْلَدَ وَإِنْ عَلِمَ الْحَكَمُ بِصِدْقِهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي مُلَاعَنَةٍ لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ» .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ السُّوءَ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتُلْ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ كَانَ عَلِمَ كُفْرَهُمْ لِمَا انْفَرَدَ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ مُنِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ لِيَبْعُدَ عَنْ التُّهْمَةِ وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَعَلَّقَ الْقَضَاءَ بِمَا يُسْمَعُ وَتَأَوَّلَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنْهُ مِنْ اهْتِدَائِهِ إلَى مَوَاقِعِ حُجَّتِهِ وَعَجَزَ الْآخَرُ عَنْ إيرَادِ مَا يَعْتَضِدُ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ وَمَا عَلِمَهُ الْحَاكِمُ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَى مَا يَسْمَعُ مِمَّنْ يَقْضِي لَهُ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ مِنْ حُقُوقِهِ مَا لَا يَسْمَعُهُ مِنْهُ وَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي لَهُ بِمَا بَيَّنَهُ فِي خُصُومَتِهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِمَوَاقِعِ حُجَجِهِ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تُلْزِمُ الْحَاكِمَ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا.

(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِيمَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي مَجْلِسِ نَظَرِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِمَّا عَلِمَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ خَاصَّةً وَلِلشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ بِدَعْوَى دُونَ بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا قَدَّرَ الْحُكْمَ بِأَحَدِهِمَا.

(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فَحَكَمَ بِعِلْمِهِ وَسَجَّلَ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَعِنْدِي أَنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُهُ.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ قَضَاءَهُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ لِمَا سَمِعَ مِنْهُ مِنْ إظْهَارِ حُجَّةٍ أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَى بَاطِلٍ عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إنْكَارِهِ أَوْ إنْكَارِ حَقٍّ عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إثْبَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِهِ وَلَا يُبِيحُهُ لَهُ، وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قِطْعَةً مِنْ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: ١٠] يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَقَدْ يُوصَفُ الشَّيْءُ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ وَيَكُونُ سَبَبًا لَهُ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ الشُّجَاعُ بِالْمَوْتِ قَالَ الشَّاعِرُ

يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ

وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... وَجْهًا يُنْجِيكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ

فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْمَوْتُ يُرِيدُ أَنَّهُ سَبَبٌ بِشَجَاعَتِهِ وَقِلَّةِ سَلَامَةِ مَنْ يُحَارِبُهُ مِنْ الْمَوْتِ.

(مَسْأَلَةٌ) :

إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ وَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ شَاهِدَيْ زُورٍ بِأَنَّ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً زَوْجَةٌ لَهُ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ إنَّ ذَلِكَ يُحِلُّهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا شَهِدَ لَهُ بِزُورٍ بِأَنَّ زَوْجًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَأَنَّ هَذَا تَزَوَّجَهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>