للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[المنتقى]

الْإِنْسَانِ عَلَى أَهْلِهِ لَا يُهْمِلُهُ وَلَا يُضَيِّعُهُ وَلَا يَسْعَى إلَّا لَهُ مَعَ كَوْنِ الْكَثِيرِ مِنْهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَمَا يُنْفِقُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا يُؤْجَرُ فِيهِ إذَا قَصَدَ بِذَلِكَ التَّقَوِّيَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ.

١ -

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي " يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يُخَلَّفَ بِمَكَّةَ بَعْدَ انْصِرَافِ أَصْحَابِهِ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشْفَاقًا مِنْ بَقَائِهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا وَمَنْعِ الْمَرَضِ لَهُ عَنْ الرَّحِيلِ مَعَ أَصْحَابِهِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إلَيْهَا.

وَقَدْ ذَكَرَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْهِجْرَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ بَعْدَ الْفَتْحِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ لِمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ قَبْلَ الْفَتْحِ يُرِيدُ لَا تُفْتَتَحُ الْهِجْرَةُ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَأَمَّا مَنْ هَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّ حُكْمَ الْهِجْرَةِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ لَازِمٌ لَهُ إلَى أَنْ يُتَوَفَّى يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ إنَّمَا أَذِنَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثًا بَعْدَ الصَّدْرِ فَعَلَى هَذَا مَنْ لَزِمَهُ حُكْمُ الْهِجْرَةِ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ مَنَعَ مِنْ الرُّجُوعِ عَنْهُ وَلَزِمَهُ الْمُقَامُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ أَقَامَ وَالنُّصْرَةُ لَهُ وَالْحِمَايَةُ، وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ قَبْلَ الْفَتْحِ لَمْ يَلْزَمْهُ هَذَا الْحُكْمُ.

١ -

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّك لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إلَّا ازْدَدْت بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً " يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنَّك إنْ خُلِّفْت فَعَمِلْت عَمَلًا صَالِحًا ازْدَدْت بِهِ دَرَجَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ هَاهُنَا: " إنَّك لَنْ تُخَلَّفَ " وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَلَّفَ بِمَعْنَى أَنْ يُنْسَأَ فِي أَجْلِك فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا، وَالثَّانِي: أَنْ يُخَلَّفَ بِمَكَّةَ التَّخَلُّفَ الَّذِي أَشْفَقَ هُوَ مِنْهُ فَيَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ بَقَاءَهُ بِالْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا لِضَرُورَةِ الْمَرَضِ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ هِجْرَتِهِ بَلْ مَا عَمِلَ فِيهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَكْتُوبَةٌ لَهُ يَزِيدُ فِي دَرَجَاتِهِ وَيَرْجِعُ مِيزَانُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُحْبَطُ مِنْ فَضْلِ الْهِجْرَةِ الْبَقَاءُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ دُونَ ضَرُورَةٍ إلَى الْمَوْتِ فِيهَا عَلَى قَوْلِ قَوْمٍ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِيهِ إخْبَارٌ لِسَعْدٍ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ بِمَكَّةَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَزْدَادُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ دَرَجَةً وَرِفْعَةً عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَإِلَى أَنَّ مَنْ مَرِضَ بِمَكَّةَ وَهُوَ عَلَى حُكْمِ الْهِجْرَةِ، وَلَوْ كَانَ بِمَكَّةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَكَانَ عَمَلُهُ بِمَكَّةَ لَا يُبْلِغُهُ دَرَجَةَ الْمُهَاجِرِينَ فَكَيْف أَنْ يَزْدَادَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ: " لَعَلَّك أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ " التَّخَلُّفُ هَاهُنَا الْإِبْقَاءُ بَعْدَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَنَّ سَعْدًا مَرَّ عَلَى الْعِرَاقِ فَأُتِيَ بِقَوْمٍ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَسَجَعُوا سَجْعَ الْكُهَّانِ فَاسْتَتَابَهُمْ فَأَتَى بَعْضُهُمْ فَقَتَلَهُمْ فَضَرَّ أُولَئِكَ وَتَابَ بَعْضُهُمْ فَانْتَفَعُوا بِهِ وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى بَقَائِهِ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى وَقْتِ وُلِّيَ أَمْرَ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهَا وَقَادَ الْجُيُوشَ فَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ اسْتَحَقَّ النَّفْعَ وَاسْتَضَرَّ بِهِ مَنْ اسْتَحَقَّ الضَّرَرَ وَكَانَ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى أَنَّهُ سَيَمْلِكُ أَنْ يَنْفَعَ وَيَضُرَّ.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدُّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْبَقَاءَ مَعَ الِاخْتِيَارِ بِمَكَّةَ مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْهِجْرَةِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَقِبِ وَمُخَالَفَةِ مَا ابْتَدَأَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَنَّ تَوْفِيقَهُمْ وَعَوْنَهُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الْمَدِينَةِ دَارِ الْهِجْرَةِ مِنْ إمْضَاءِ الْهِجْرَةِ لَهُمْ وَتَصْحِيحُهَا فِي جَنْبَتِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَّفَ رَجُلًا عَلَى سَعْدٍ، وَقَالَ لَهُ إنْ مَاتَ بِمَكَّةَ فَلَا تَدْفِنُهُ بِهَا.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ الْبَائِسُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ الَّذِي يَتَبَيَّنُ عَلَيْهِ أَثَرُ الْبُؤْسِ مِنْ شِدَّةِ الْفَقْرِ وَقَوْلُهُ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ مَاتَ بِمَكَّةَ ذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>