للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ص) : (مَالِكٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي وَالْفَاتِنُ) .

ــ

[المنتقى]

الَّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِمُوا مَا جَاءَ بِهِ، وَتَكَرَّرَ أَخْذُهُمْ وَسَمَاعُهُمْ لِمَا قَالَهُ وَفَهَّمَهُمْ الْمُرَادَ وَسُؤَالِهِمْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ عَنْهُ فَسَمِعَهُمْ يَقُولُونَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: ٤٩] وَيُحْتَمَلُ مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَى لِسَانِ الْعَرَبِ مَعَانِيَ أَحَدِهَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ خَلَقْنَا مِنْهُ شَيْئًا مُقَدَّرًا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ خَلَقْنَاهُ عَلَى قَدَرِ مَا لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: ٣] ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نُقَدِّرُهُ عَلَيْهِ قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: ٤] الرَّابِعُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بِقَدَرٍ أَنْ نَخْلُقَهُ فِي وَقْتِهِ فَقَدَّرَ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقْتًا يَخْلُقُهُ فِيهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ أَمْلَى عَلَيَّ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ سَأَلْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ عَنْ الْقَدَرِ فَقَالَ كُلُّ شَيْءٍ بِالْقَدَرِ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ بِقَدَرٍ، وَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ مَنْ قَالَ إنَّ الْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ بِقَدَرٍ.

وَقَالَ وَالْعِلْمُ وَالْقَدَرُ وَالْكِتَابُ سَوَاءٌ، وَعَرَضْت كَلَامَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَقَالَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَعْنَى الْحَدِيثِ غَيْرَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقَدَرَ وَالْكِتَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا رَاجِعٌ إلَى مَعْنًى مُخْتَصٍّ بِهِ غَيْرَ أَنَّهَا مَعَانٍ مُتَقَارِبَةٌ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ مِنْ طَرِيقِ تَقَارُبِهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

قَالَ مَالِكٌ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ إنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَعِلْمًا بَيِّنًا عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: ١٦١] {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: ١٦٢] {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: ١٦٣] .

وَقَالَ نُوحٌ {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: ٢٦] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: ٢٧] ، وَأَخْبَرَ نُوحٌ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنَّهُ فَاجِرٌ كَفَّارٌ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكٌ وَمَا رَأَيْت أَهْلَهُ مِنْ النَّاسِ إلَّا أَهْلَ سَخَافَةِ عُقُولٍ وَخِفَّةٍ وَطَيْشٍ، وَقَدْ اعْتَمَدْت فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى إيرَادِ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ وَالْحَدِيثِ لِمَا فِي أَقْوَالِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْغُمُوضِ، وَمَا فِي احْتِجَاجِهِمْ مَعَ الْمُخَالِفِ مِنْ التَّطْوِيلِ، وَقَدْ بَلَغَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ فِي كُتُبِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ بِالطَّالِبِ إلَّا الْيَسِيرُ مِنْهُ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو ذَرٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ مَالِكِيًّا، وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ حَاجٍّ الْفَاسِيُّ قَدْ رَحَلَ إلَيْهِ وَأَخَذَ عَنْهُ وَتَبِعَهُ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَابِسِيُّ يَتْبَعَانِ مَذْهَبَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَصْرٍ، وَهُوَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ وَاتَّبَعَهُ وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت عُلَمَاءَ شُيُوخِنَا بِالْمَشْرِقِ وَأَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ هُمْ الَّذِينَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ.

(فَصْلٌ) :

وَقَوْلُهُ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَقُولُ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ أَوْ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ» عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ مِنْ الرَّاوِي، وَمَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، وَأَنَّ الْعَاجِزَ قَدْ قُدِّرَ عَجْزُهُ وَالْكَيِّسُ قَدْ قُدِّرَ كَيْسُهُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْعَجْزَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالْكَيْسَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(ش) : قَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خُطْبَتِهِ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْهَادِي وَالْفَاتِنُ يُرِيدُ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فَاشِيًا عِنْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مُتَدَاوَلًا النُّطْقُ وَالْحَضُّ عَلَى الْأَخْذِ فِيهِ وَالِاعْتِقَادِ لَهُ وَالْإِشَاعَةِ لِلَفْظِهِ، وَمَعْنَاهُ وَلِذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يُعْلِنُ فِي خُطْبَتِهِ وَفِي الْمَحَافِلِ وَمُجْتَمَعِ النَّاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إخْبَارًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي مُنَاجَاتِهِ لَهُ {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: ١٥٥] وَالْهِدَايَةُ تَكُونُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: بِمَعْنَى الْإِيضَاحِ وَالْإِرْشَادِ يُقَالُ أَهْدَيْت فُلَانًا الطَّرِيقَ أَيْ أَرْشَدْته إلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>