واستدل -رحمه الله- بأحاديث مرفوعة وردت في ذلك عن جماعة من الصحابة بلفظ:"أَفْطَر الحَاجِم والمحجُوم". وهذا الحديث قال فيه بعضهم: إنه يبلغ حد التواتر رواه اثنا عشر من الصحابة.
وعلَّل أصحاب هذا القول إفطار الحاجم لأنه يمتص الدم.
وأما المحجوم فلأنه يظهر منه دم كثير فيفطر كما أن خروج دم الحائض يسبب فطرها، وقد يكون الدم الذي يخرج من الحائض في بعض النساء أقل من الذي يخرج من المحتجم، ولأن خروج الدم قد يضعف البدن، وقد يكون استفراغًا كالقيء.
ولو لم تصدق عليه هذه العلل فإن الحديث صحيح رواه جماعة من الصحابة منهم ثوبان وشداد بن أوس ورافع بن خديج.
وهؤلاء الثلاثة روى أحاديثهم "الإمام أحمد" في "مسنده" وأهل "السنن" وكذلك معقل بن يسار وبلال بن رباح وعائشة وأبو هريرة -ورواه أيضًا صاحب القصة الذي ورد فيه الحديث- رضي الله عنهم.
وخالف فى ذلك الأئمة الثلاثة، وقد أخذ أصحابهم يتكلفون في الإجابة عن
الأحاديث التي استدل بها الإمام أحمد -رحمه الله- قال بعضهم: إنما قال: "افطر الحاجم والمحجوم" لأنهما كانا يغتابان الناس. ولما نقل هذا القول الإمام أحمد -رحمه الله- قال: لو كانت الغيبة تفطر ما بقي منّا أحد إلا وهو مفطر.
وأجاب آخرون بأجوبة، منها: أن الحديث منسوخ وقالوا: إنه ورد في أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخَّص في الحجامة للصائم والرخصة تدل على أن حديث:"أفطر الحاجم والمحجوم" منسوخ. ولكن الحديث الذي فيه الرخصة فيه ضعف، وعلى تقدير صحته فلعل الرخصة هي السابقة للمنع، فليس عندنا دليل على أنها متأخرة عن هذا الحديث.
وأقوى ما تمسك به أصحاب هذا القول حديث ابن عباس الذي رواه البخاري قال:"احْتَجَم النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صَائِم واحْتَجَم وهو مُحْرم".
ولكن جميع الرواة قالوا فيه: احتجم وهو صائم محرم. هذا هو اللفظ الصحيح وأكثر تلامذة ابن عباس لم يذكروا الصيام، وإنما اقتصروا على الإحرام. ولما نقل الحديث للإمام أحمد قال: ليس فيه الصيام إنما انفرد بذكره فلان وفلان ...