ومعنى "لعل" الإعداد والتهيئة، وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأناً، وأنصعها برهاناً، وأظهرها أثراً، وأعلاها خطراً وشرفاً أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه إلا الله تعالى، وسر بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه، فإذا ترك الإنسان شهواته ولذاته التي تعرف له في عامة الأوقات لمجرد الامتثال لأمر ربه والخضوع له لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة ملاحظاً عند عروض كل رغيبة له -من أكل نفيس، وشراب عذب، وفاكهة يانعة، وغير ذلك كزينة زوجة أو جمالها الداعي إلى ملابستها- أنه لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها فلا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى، والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس مؤهل لها لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا ولسعادتها في الآخرة.
كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضاً، انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلاً لأموالهم بالباطل؟ هل يحتال على الله في منع الزكاة؟ هل يحتال على أكل الربا؟ هل يقترف المنكرات جهاراً؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله ستاراً؟ كلا! إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى وإذا نسي وألمّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)[الأعراف: ٢٠١] .
فالصيام أعظم مرب للإرادة، وكابح لجماح الأهواء؛ فأجدر بالصائم أن يكون حرّاً يعمل ما يعتقد أنه خير، لا عبداً للشهوات، إنما روح الصيام وسره في هذا القصد والملاحظة التي تحدث هذه المراقبة".