للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مدرسة الثلاثين يوماً

"شهر للثورة" (*)

* يقول الأديب الفاضل مصطفى صادق الرافعي رحمه الله.

"لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمتِه؛ أما منفعتُه للجسم، وأنه نوعٌ من الطب له، وبابٌ من السياسة في تدبيره؛ فقد فرغ الأطباءُ من تحقيق القول في ذلك؛ وكأن أيامَ هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبةً تؤخذُ في كل سنة مرةً لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم؛ ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شَرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة، عاملة على استمرارِ الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدَّل النفس على تغير الحوادث وتَبَدُّلِها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.

من معجزات القرآن الكريم أنه يدَّخرُ في الألفاظ المعروفة في كل زمن، حقائقَ غيرَ معروفة لكل زمن، فيُجلِّيها لوقتها حين يَضِج الزمانُ العلمي في مَتَاهَتِه وحَيرَته، فيَشغَبُ على التاريخ وأهله مستَخِفّاً بالأديان، ويذهبُ يتتبعُ الحقائق، ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلصَ من بيِن كُفرٍ وإيمان ديناً طبيعيّاً سائغاً، يتناولُ الحياة أول ما يتناولُ فيضبطها بأسرار العلم، ويوجِّهُها بالعلم إلى غايتها الصحية، ويضاعف قُواها بأساليبه الطبيعية، ليحقِّق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمُها المذاهبُ الاجتماعية ولم يهتد إليها مذهبُ منها ولا قاربَها؛ فما برحت سعادةُ الاجتماع كالتجربة العلمية بين يَدي علمائها: لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهبُ كعقارب الساعة في دورَتها: تبدأ من حيثُ تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيثُ تبدأ..

يضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان


(*) كتبها في شهر رمضان سنة ١٣٥٣ هـ، وانظر "عود على بدء" من كتاب حياة الرافعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>