وواصل عنبسة -رحمه الله- سيره، ووجد الطريق أمامه خالية، فسار مسرعاً دون أن يلقى مقاومة، وصعد حتى أدرك نهر الساءون فاستولى على أوتون، واستمر في زحفه الظافر فقذف الله في قلوب الكفار الرعب فلم يتصد أحد منهم للمسلمين إلا لطلب الصلح، واجتاح المسلمون مدينة أوزه، وفيين، وفالنسي ووصلوا إلى مدينة ليون التي يسميها العرب "حصن لودون"، كذلك زحفوا على مدينة ماسون، وشالون، ووصلوا إلى مدينة "سانس" عاصمة إقليم "يوند" على بعد ثلاثين كيلوا متراً فقط جنوبي باريس، وقد تصدت هذه المدينة للزحف الإسلامى فكانت آخر ما وصل إليه المسلمون.
ويبدو أن القائد المسلم عنبسة بن شحيم قد أدرك بعد هذا التقدم الظافر الذي جعله يقترب من باريس أنه توغل في قلب فرنسا أكثر مما ينبغي، فقد طالت خطوط العودة فخشى أن تقطع عليه بعد أن ابتعد مسافة ألف ميل شمالي قرطبة، كما أن أحوال الأندلس قد بدأت تتغير بظهور العصبيات المختلفة، مما دعاه إلى العودة بعد هذا النصر العظيم.
وقد أثارت هذه الفتوح المخاوف في نواحي فرنسا، وارتاعت معظم الدوقيات وشعرت مملكة الفرنج أنها أمام خطر حقيقي، وبدا واضحا أن الحملة المقبلة ستكون حملة حاسمة.
والحقيقة أن أحوال الأندلس في ذلك الوقت قد أثرت كثيراً على هذه الفتوح الإسلامية، ولولاها لما توقف عنبسة عن فتوحه الموفقة تلك. وفي طريق العودة داهمت جيشَ المسلمين جموع كبيرة من الفرنجة وجرح عنبسة بجروح بليغة توفى على إثرها في شهر شعبان سنة سبع ومائة هجرية، بعد أن نشر الرعب في نواحي فرنسا ووصل برايات الإسلام إلى قلب أوروبا الغربيّة، وكفاه ذلك فخراً حيث لم يدرك هذا الشأو بعد ذلك قائد مسلم آخر (١) .
[سنة ٢٢٢ هـ فتح البذ مدينة "بابك الخرمي"]
جهّز المعتصم جيشاً كثيراً للأفشين على محاربة "بابك" وبعث إليه ثلاثين ألف ألف