ويقول رحمه الله في "زاد المعاد" في كلامه عن وصال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما يغذيه الله به من المعارف وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضاء به ... ومن حديثك في أعقابها حاد
إذا شكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ولا سيما المسرور الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرّت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كل وقت ومحبوبه حفي به معتز بأمره مكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له، أفليس في هذا أعظم غذاء لهذا المحب فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ولا أعظم ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلب المحب بحبه وملك حبه جميع أجزاء قلبه وجوارحه، وتمكن حبه منه أعظم تمكن وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلاً ونهاراً، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني" ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً، وأيضاً فلو كان ذلك في الليل لم يكن مواصلاً، ولقال لأصحابه إذ قالوا له: إنك تواصل: لست أواصل، ولم يقل: لست كهيئتكم بل أقرهم على نسبة الوصال إليه وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك بما بينه من الفارق"(١) .
وقال ابن القيم في "مدارج السالكين"(٢/٨٨) : "وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم. ولو كان كما ظنه هذا الظان لما كان صائماً، فضلاً عن أن يكون مواصلاً، ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حساً، لكان الجواب أن يقول: وأنا لست أواصل أيضاً، فلما أقرهم على قولهم: "إنك تواصل" عُلم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني، الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي".