للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بزيادة ونقص في أعصابه؛ ولا يزال مذهبهُم في الدنيا كُتُب ورسائل؛ ولو أنهم تدَبروُا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاما عمليّا من أقوى وأبدع الأنظمة الصحيحة: فهذا الصومُ فَقر إجباريّ تَفرضه الشريعةُ على الناس فرضاً ليتساوَى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من مَلَك المليونَ من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاً؛ كما يتساوى الناسُ جميعا في ذهاب كبريائهم الإنساني بالصلاة التي يفرضُها الإسلام على كل مسلم؛ وفي ذهاب تَفاوُتِهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضُه على من استطاع.

فقرُ إجباريٌ يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.

ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا؛ وإنما يختلفون ببطونهم وإحكام هذه البطون على العقل والعاطفة؛ فمن البطن نكبةُ الإنسانية، وهو العقلُ العملي على الأرض؛ وإذا اختلف البطنُ والدماغُ في ضرورةٍ، مد البطنُ مدَّهُ من قَوَى الهضم فلم يبقِ ولم يَذَر.

ومن ههنا يتناولُه الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعورٌ واحد وحس واحد وطبيعة واحدة؛ ويُحكم الأمر فيحولُ بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعُها تغذيتها ولذتها.

وبهذا يضَعُ الإنسانيةَ كلَّها في حالة نفسية واحدة تَتَلبسُ بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويُطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعلم الرحمة ويدعو إليها، فيُشبعُ فيها بهذا الجوعِ فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية (١) من الحق، وهي تلك الفكرةُ التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان


(١) ليس فيها أي حق.

<<  <  ج: ص:  >  >>