للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفقير إلى الغني بطبيعته؛ ومن هذين: (الاطمئنان والمساواة) ، يكون هدوءُ الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلبُ والإيجابُ في هذا الاجتماع الإنساني؛ وإذا أنت نزعتَ هذه الفكرة من الاشتراكية بقى هذا المذهبُ كلُّه عَبثاً من العَبث في محاولة جعلِ التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.

من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعضُ السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشدَ المبالغة، ويدقق كلَّ التدقيق، في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة؛ فهذه طريقةٌ عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرُها إلا النكباتُ والكوارث؟ فهما طريقتان كما ترى مُبصرةٌ وعمياء، وخاصةٌ وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.

ومتى تحققت رحمةُ الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانُها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة؛ فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول: "أعطي" ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يُواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.

أية معجزة إصلاحية أعجبُ من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يحذفَ من الإنسانية كلها تاريخُ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحِل في محله تاريخُ النفس (١) ؟ وأنا مُستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحقِّقةٌ في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس؛ كأنه الشهرُ الصِّحي الذي يفرضه الطبُّ في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لإحداث الترميم العصبي في الجسم، ولعل ذلك آتٍ من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المحاق؛ إذ تنتفخُ العروقُ وتَربوا في النصف الأول من الشهر، كأنها في (مَدّ) من نور القمر ما دام هذا النورُ إلى زيادة، ثم يراجعُها (الجزرُ) في


(١) أفسد ضعفى النفوس هذا المعنى، فما يحقق الناس (تاريخ البطن) كما يحققونه في شهر رمضان، وهم يعوضون البطن في الليل ما منعوه في النهار، حتى جعلوا الصوم تغييراً لمواعيد الأكل.. ولكن الصوم على ذلك لم يحرمهم فوائده.

<<  <  ج: ص:  >  >>