للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"الصوم يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الصيام نصف الصبر".

وهذا معنى دلالة "لعل" على الترجي، فالرجاء إنما يكون فيه، وقعت أسبابه وموضحه هنا الخاطبون لا المتكلم، ومَن لم يصم النية وقصد القربى لا ترجى له هذه الملكة في التقوى، فليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفس لذاته بل لتربيتها وتزكيتها.

قال شيخنا: إن الوثنيين كانوا يصومون لتسكين غضب آلهتهم إذا عملوا ما يغضبهم، أو لإرضائها واستمالتها في بعض، الشئون والأغراض، وكانوا يعتقدون أن إرضاء الآلهة أو التزلف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد، وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب حتى جاء الإسلام ويعلمنا أن الصوم إنما فرض لأنه يعدنا للسعادة بالتقوى، وإن الله غني عنا وعن عملنا وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا" (١) .

أشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية، يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلِّب الحيوانية على الروحانية، فإذا أتى الصوم كفَّه وأمات أكثر نزعاته، ووضع لكل حاجة حدّاً ونهاية.

الصوم يصنع الإنسان صناعة جديدة، تخرجه من ذات نفسه وتكسر القالب الأرضي الذي صُبّ فيه، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه، فلا تغره الدنيا ولا يمسكه الزمان ولا تخضعه المادة، إذا كانت هذه هي صفات المستعبد بأهوائه لا الحرّ فيها، والخاضع بنفسه لا المستقل بها، والمقبور في إنسانيته لا الحيّ فوق إنسانيته؛ ومثل هذا المستعبد الخاضع المقبور لا وجود له إلا في حكم حواسه، فعمله ما يعيش به لا ما يعيش من أجله، ويتصل بكل شيء اتصالاً مبتوراً ينتهي في هوى من أهواء الحيوان الذي فيه، والصوم يطلق من سلطان نفسه، وينقح الآدمية فيه يجعله يجد نفسه، وموضع نفسه" (٢) .


(١) "تفسير المنار" (ج ٢) .
(٢) "من وحي القلم" للرافعي.

<<  <  ج: ص:  >  >>