وأما تخصيصها بالاعتكاف فلا أعلم فيه أمرًا، بل كل من صام صومًا مشروعًا، وأراد أن يعتكف من صيامه كان ذلك جائزًا بلا ريب.
وإن اعتكف بدون الصيام، ففيه قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، كمذهب أبى حنيفة، ومالك.
والثاني: يصح الاعتكاف، بدون الصوم. كمذهب الشافعي.
وأما الصمت عن الكلام مطلقًا في الصوم، أو الاعتكاف، أو غيرهما فبدعة مكروهة، باتفاق أهل العلم. لكن هل ذلك محرم، أو مكروه؟ فيه قولان في مذهبه، وغيره.
وفي "صحيح البخاري": أن أبا بكر الصديق دخل على امرأة من أحمس فوجدها مصمتة لا تتكلم، فقال لها أبو بكر:"إن هذا لا يحل: إن هذا من عمل الجاهلية".
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس: "أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا قائمًا في الشمس، فقال: من هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم فى الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم. فقال: مروه فليجلس وليستظل وليتكلم، وليتم صومه".
فأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع نذره للصمت، أن يتكلم، كما أمره مع نذره للقيام أن يجلس، ومع نذره أن لا يستظل، أن يستظل.
وإنما أمره بأن يوفي بالصوم فقط، وهذا صريح في أن هذه الأعمال ليست من القرب التي يؤمر بها الناذر.
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح:"من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله
فلا يعصه".
كذلك لا يؤمر الناذر أن يفعلها، فمن فعلها على وجه التعبد بها والتقرب، واتخاذ ذلك دينًا وطريقًا إلى الله تعالى: فهو ضال جاهل مخالف لأمر الله ورسوله. ومعلوم أن من يفعل ذلك -من نذر اعتكافًا ونحو ذلك-، إنما يفعله تدينًا، ولا ريب أن فعله على وجه التدين حرام فإنه يعتقد ما ليس بقربه قربة، ويتقرب إلى الله تعالى بما لا يحبه الله،