للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَابُ مَنْ اجْتَازَ فِي بَلَدٍ فَتَزَوَّجَ فِيهِ أَوْ لَهُ فِيهِ زَوْجَةٌ فَلْيُتِمَّ

١١٧٠ - (عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:

ــ

[نيل الأوطار]

وَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ رِوَايَة تِسْع عَشْرَة أَرْجَحُ الرِّوَايَات، وَبِهَذَا أَخَذَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، وَيُرَجِّحهَا أَيْضًا أَنَّهَا أَكْثَر مَا وَرَدَتْ بِهِ الرِّوَايَات الصَّحِيحَة وَأَخَذَ الثَّوْرِيُّ وَأَهْل الْكُوفَةِ بِرِوَايَةِ خَمْس عَشْرَة لِكَوْنِهَا أَقَلّ مَا وَرَدَ، فَيُحْمَل مَا زَادَ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا. وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَقْدِير الْمُدَّةِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا الْمُسَافِرُ إذَا أَقَامَ بِبَلْدَةٍ وَكَانَ مُتَرَدِّدًا غَيْرَ عَازِمٍ عَلَى إقَامَةِ أَيَّامٍ مَعْلُومَةٍ. فَذَهَبَ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالْإِمَامِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْزِم إقَامَة مُدَّة مَعْلُومَة كَمُنْتَظِرِ الْفَتْحِ يَقْصُر إلَى شَهْر وَيُتِمّ بَعْده.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُتَقَدِّم فِي شَرْحِ الْبَابِ الْأَوَّل، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْإِمَامُ يَحْيَى وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ يَقْصُر أَبَدَا، لِأَنَّ الْأَصْل السَّفَر، وَلَمَّا ذَكَره الْمُصَنِّفُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالُوا: وَمَا رُوِيَ مِنْ قَصْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَكَّةَ وَتَبُوكَ دَلِيل لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصْر مُدَّة إقَامَته، وَلَا دَلِيل عَلَى التَّمَام فِيمَا بَعَدَ تِلْكَ الْمُدَّة.

وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِحُنَيْنٍ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَلَكِنَّهُ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ غَيْر مُحْتَجّ بِهِ.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ: أَنَّهُ يُتِمّ بَعَدَ أَرْبَعَة أَيَّام. وَالْحَقّ أَنَّ الْأَصْل فِي الْمُقِيم الْإِتْمَام، لِأَنَّ الْقَصْر لَمْ يُشْرِعْهُ الشَّارِعُ إلَّا لِلْمُسَافِرِ، وَالْمُقِيم غَيْر مُسَافِر، فَلَوْلَا مَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَصْره بِمَكَّةَ وَتَبُوكَ مَعَ الْإِقَامَة لَكَانَ الْمُتَعَيَّن هُوَ الْإِتْمَام، فَلَا يَنْتَقِل عَنْ ذَلِكَ الْأَصْل إلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيل عَلَى الْقَصْر مَعَ التَّرَدُّد إلَى عِشْرِينَ يَوْمًا كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَلَمْ يَصِحّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَصَرَ فِي الْإِقَامَة أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ فَيُقْتَصَر عَلَى هَذَا الْمِقْدَار، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَصْره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تِلْكَ الْمُدَّة لَا يَنْفِي الْقَصْر فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ مُلَاحَظَة الْأَصْل الْمَذْكُور هِيَ الْقَاضِيَة بِذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُعْتَبَر صِدْق اسْم الْمُسَافِر عَلَى الْمُقِيم الْمُتَرَدِّدِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " فَصَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم، وَمَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْم قَصَرَ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَر هُوَ السَّفَر لِانْضِبَاطِهِ لَا الْمَشَقَّة لِعَدَمِ انْضِبَاطهَا، فَيُجَابُ عَنْهُ أَوَّلَا: بِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَقَال الْمُتَقَدِّم، وَثَانِيَا بِأَنَّهُ يُعْلَم بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُقِيم الْمُتَرَدِّد غَيْر مُسَافِر حَالَ الْإِقَامَة، فَإِطْلَاق اسْم الْمُسَافِر عَلَيْهِ مَجَاز بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>